محمد سليمان العنقري
الخروج المدوي للبريطانيين من الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء شعبي حصد أغلبية ضئيلة فسر على أنه ضربة قاضية لهذا الاتحاد العريق الذي شكل نموذجا اعتبر كقدوة لدول العالم حقق انسجاما ساهم بتعزيز قوة اقتصاد أوروبا لعقود لكن الصورة مختلفة بعد أن رشحت الخلافات الدفينة على السطح بتدرج منذ أكثر من عشرة أعوام خصوصا بالشأن السياسي والاقتصادي، فلم يتحقق التوافق السياسي بين دول الاتحاد في الحرب الأمريكية على العراق عام 2003م فبريطانيا دعمت أميركا بالوقت الذي عارضت ألمانيا وفرنسا الحرب لكن ذلك لم يكن مكمن الاختلافات الكبيرة داخل الاتحاد فقط بل كشفت الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008م أن عمق الخلافات والاختلافات أكبر بكثير مما كان متوقعا إذ لم تنجح منظومة الاتحاد عموما سواء على مستوى دوله مجتمعة أو التي انضوت تحت مظلة اليورو بأن تحتوي الإشكاليات الاقتصادية التي خلفتها الأزمة وبدا ذلك بتباينات وفروق كبرى بين الدول الغنية والفقيرة المنتمية للاتحاد الأوروبي خصوصا الطرفية منها التي ما زالت تعاني اقتصاداتها من نمو هش أو ركود وسط عدم احتواء حقيقي للأزمة وسبق أن طرح خروج اليونان من اليورو بأكثر من مناسبة قبل أكثر من عامين ولكن يبقى لتصويت البريطانيين على الخروج نهائيا من الاتحاد صدى مختلف وأثر بالغ يفرض نفسه كمقياس لمستقبل النظام الدولي على الأصعدة كافة.
فمن المعروف أن للبريطانيين رؤية خاصة داخل المنظومة الأوروبية وكذلك العالمية وهو ما يقرأ منذ زمن كسبب لعدم انضمامهم للعملة الأوروبية الموحدة إذ كان واضحا لكثير من بيوت التحليل والدراسات أنه بمثابة خط عودة إذا ما قرروا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فبريطانيا لا تريد أن تذوب وسط القارة العجوز وهي اعتادت أن تكون إحدى عواصم القرار وفق ما ترى به مصلحتها وليس مصلحة كيان قاري ستوزع عليه فوائد أي قرارات أو استراتيجيات سياسية واقتصادية والبريطانيين لم يذهبوا ليقولوا وداعا لأوروبا وهم غير عارفين بتبعات القرار الاقتصادية على الأقل فما رشح من خسائر اقتصادية تفوق 220 مليار جنيه إسترليني على اقتصادهم وارتفاع متوقع بالبطالة وركود لمدة عام ومعاناة اقتصادية لعشرة أعوام طرح من سياسييهم وإعلامهم قبل غيرهم ولم يجد تأثيرا كبيرا لتغيير القناعات بالخروج بل الاتجاه لاستفتاء شعبي بحد ذاته أمر مستغرب على عضوية دامت أربعة عقود فلماذا الآن تطرح وتحصد نجاحا مدويا بأثره حقق خسائر بالبورصات العالمية بأكثر من تريليوني دولار كان نصيب بورصة لندن قرابة عشرة بالمائة منها خلاف الهبوط الحاد بالجنيه الإسترليني أمام العملات الرئيسية.
إن استمرار البريطانيين باتجاه هذا الطلاق مع أوروبا والعودة لها من بوابة علاقات واتفاقات تجارية كحال أي دولة من قارة أخرى مع تداعيات باستقلال بعض دول المملكة المتحدة كإسكتلندا يعني أن اتجاه بريطانيا نحو تحول سياسي داخلها يؤسس لمرحلة مختلفة عالميا تتيح لها أن تكون قائدا مؤثرا لتحالفات وعلاقات جديدة بعيدا عن مصالح الاتحاد الأوروبي تبقيها أحد الأقطاب السياسية والاقتصادية بما تمتلكه من نفوذ عالمي بمناطق عديدة خصوصا دول الكومنولث وأيضا الاقتصاديات الناشئة القوية كالصين والهند بما لها من دور وجذور بتلك المناطق يسمح لها بدور يحقق مصالح أوسع اقتصاديا بدلا من الوضع الراهن الذي يظهر أن بريطانيا وصلت لذروة المكاسب منه ولن يضيف لها إلا أعباء مستقبلا مع ترهل القارة العجوز وتباطؤ بنموها وتنافسيتها العالمية فالأسواق النشطة تغيرت ومن لا يصل مبكرا لدول حيوية وجامحة بالنمو فلن يكون له دور مؤثر بالمستقبل.
بريطانيا تبدو هي من قص الشريط لمرحلة وعصر جديد بالعلاقات الدولية وبناء المصالح لهذا القرن والاتحاد الأوروبي سيبقى وسيلملم جراحه لأنه لا خيارات أمامه إلا بالبقاء مع إحداث تغيير كبير بهيكلية عمله أتوقع أن تحدث ببحر عقد من الزمان بعد أن يعزز من تماسكه بهذه المرحلة ويقوي دور اتحاده النقدي ويوجد التكامل المطلوب العادل بين مكوناته إلا أن بريطانيا اختارت أن تكون ندا له بما يعكس سلوكها وشخصيتها وهويتها التي انفردت بها عن أوروبا وتبدو الآن أكثر وضوحا ليس باتجاهها فقط بل بما ينتظر أن يكون عليه مستقبل العلاقات والنظام الدولي القادم.