فواز السيحاني
دعيني أُخبركِ وأنت تطيرين في الجنة الآن لِمَ حدث كل ذلك. دعيني أقول لكِ إن صمتنا الطويل لم يعد يجدي. بأنّ علينا الآن وأكثر من أيّ وقتٍ مضى أن نخاف على الوطن، الوطن الذي مد ذراعيه لنا، للجميع. أن نحاول أن نصعد على قمة الجبل للمرّة الأخيرة كي نصرخ مِنْ هناك لعل أحدًا ما يستمع لنا.
« هيلة «: يا رائحة الشهداء، يا طعمَ القلقِ الجاثم على رئتي وجسدي الهزيل، يا بكائي الطويل، أنتِ بالتأكيد كنتِ تعرفين قبل رحيلكِ الأخير بأن لدينا قرابة الثلاثين جامعة لم تقدم أيٌّ منها ولو دراسة واحدة عن «داعش»؟. دراسة واحدة فقط؛ كي نعي على الأقل بطريقة مختلفة كيف حدث ذلك؟. بل لماذا لا زال يحدث؟. بدلًا من الكلام السريع والقاتم الذي نستمع له يوميا. أنتِ بالتأكيد كنتِ تعرفين بأن لدينا الكثير من المفكرين لم يكتبوا شيئاً نفهمه حتى الآن كي يجيبوا عن تساؤلاتنا الموجعة: « لماذا وصل بعض منا إلى هذه المرحلة من الشر والدمار؟. كيف يستطيع أن يقتل أمه، كيف يستطيع أن يقتل أباه، بل أن يفعل ذلك معاً؟؟ «وحتى الآن يا «هيلة» ليس هناك ولو بحث واحد جاد من إحدى المؤسسات رغم الدعم الوطني السخي دون رياءٍ أقولها، ليس هناك أي مشروع إعلامي توعوي في شبكات التواصل وفي مختلف الشاشات، بل بعض منها محزن للغاية؛ فأنت في الأصل لا تعرف بوجودها سوى أثناء قيامك بسحب مبلغك اليومي من أجهزة الصراف الآلي!. حتى بعض من المتخصصين اختاروا الصمت البريء بدلًا من الكلام الشريف، بدلاً من بذل كل الجهد لتغير عقل ذلك الداعشي الصغير الذي للتو بدأ في النمو والتفكير في شكل الحزام الناسف الذي يريد أن يرتديه، خذي مثلا يا وجعي: الأطباء النفسيين في مجال الجريمة والأخصائيين الاجتماعيين والبقية في العلوم الإنسانية هل تصدقين أنهم لم يجتمعوا مع بعضهم بعضا في لقاءٍ علمي أوحتى في مقهى عابرٍ على الرصيف؛ كي يَخرُجوا لنا بقراءة نفسية أو اجتماعية تحاول إفهام عقولنا المصابة بالذهول من أين أتى كل هذا الخوف؟ وماذا علينا أن نفعل حين نرى هذه القابلية للانتماء لهذا العنف في أبنائنا؟. بل والكثير الكثير من الأشياء الضرورية التي لم يقولوها لنا بعد؛ لأنهم مشغولون بعياداتهم الخاصة، بجلب الأموال من جيوب المساكين والمرضى وبيع أجهزة ألفا ستيم، أما المثقف والأكاديمي فإنه مشغول بالكتابة حول النقد الأدبي ودور النسق الثقافي في الكتابة الإبداعية!.
«هيلة»: يا وجع القصيدة، يا مطرا يسقط في جفاف الأرض لتمتلئ السنابل والحديقة هل أبدو غاضبًا فيما كتبت؟. هل لا زلتُ يائساً لأن الموت لازال يتربص بالأبرياء من حولك ومن حولي؟. ولأن رجل الأمن هو الوحيد الذي يدفع كل ما يملك لحمايتنا في حين أن بعضا من الأكاديميين، المثقفين، الدعاة، يشبهون الحكمة الفرنسية التي تقول: « لكل أوجاعكم لا أملك شيئاً فاتركوني أفكر كيف أقضي نزهتي القادمة!!».
في حين أن أوطاننا هي نزهتنا الأبدية، ومن لا يفكر فيه، من لا يحمل همه، فإنه يخونه وهل تعرفين ما سيحدث حينها يا صوت الصادقين ويا دعاء الأتقياء الخاشعين، سيحدث ما قاله غسان كنفاني يوماً: « حين تخون وطنك لن تجد ترابا يحن عليك يوم موتك، ستشعر بالموت حتى وأنت ميت، حتى التراب سيعتبرك غريباً عليه، حتى التراب سيعتبرك غريبا عليه!!!!). «هيلة» يا رائحة الأمهات الطيبات لكِ كل بكاء الكون في هذا الوجود المرعب لكن وكما يقول سامراغو: «ماذا تفيد الدموع حين يفقد العالم كل المعاني الإنسانية». وداعاً يا «هيلة» وداعاً إلى الأبد وأوقاتا جميلة في جنة الله الواسعة.