يوسف المحيميد
منذ سنوات بعيدة، كنت في بريطانيا ذاهباً لالتقاط طفليَّ من مدرستهما، فوجدتهما في الساحة الخضراء يلهون بالكرة، وتكرر الأمر ثلاث مرات خلال شهر، فسألت مديرة المدرسة السيدة جين، متى يتعلمون إذا كانوا معظم الوقت يلهون؟ فأجابت إنهم يتعلمون أثناء اللهو، وأدركت فيما بعد أن المعرفة لها مصادر متعددة!
تذكرت ذلك، وأنا أشاهد تقريراً مرئياً عن التعليم في فنلندا، وكيف قفزت هذه الدولة الصغيرة، وخلال بضع سنوات، من المرتبة التاسعة والعشرين في مستوى التعليم، إلى المرتبة الأولى عالمياً، وكانت أولى المفاجآت في تصريح موجز لوزيرة التعليم الفنلندية، بأنه لا يوجد واجبات منزلية، وكما قال أحد مدراء المدارس هناك، بأن طريقة الواجبات المنزلية أكل الدهر عليها، فقد أكد التلاميذ بأن الواجبات المنزلية لو وجدت، فهي لا تأخذ من وقتهم أكثر من عشر دقائق!
أما المفاجأة الثانية في تصريح الوزيرة هي أن اليوم الدراسي في حدود ثلاث أو أربع ساعات فقط، بما في ذلك وقت التسلية واللعب، فتساءل محرر التقرير المرئي كما فعلتُ قبل سنوات: متى يتعلمون إذًا؟ هل تتركوهم يتسلقون الأشجار إذا رغبوا في ذلك؟ أجابت مديرة إحدى المدارس، عند تسلقهم الأشجار قد يكتشفون حشرة، ويسألون عنها فيما بعد، في الصف!
هل فعلاً لا نحصل على المعرفة إلا من الكتب؟ أم أن مصادر المعرفة متعددة، نأخذها من الحياة، ومن التجارب؟ هكذا كانت رواية (زوربا اليوناني)، إحدى علامات الرواية الأوروبية الحديثة، إذ تطرح شخصيتين متناقضتين، شخصية الكاتب وهو كازنتراكيس الذي يتعلم من الكتب، وشخصية العجوز زوربا الذي تعلم من الحياة ذاتها، إلى درجة أنه يسخر من الكتب، ويرى العالم من خلال العيش والتجربة والحياة، وهو ما يعزز نظرة التعليم الحديث، بالتعليم عن طريق اللعب واللهو والتجربة والاكتشاف!
وعند النظر إلى حال التعليم العربي بشكل عام، وفي تعليمنا السعودي بشكل خاص، نجد أننا غارقون في نمط التعليم التقليدي، تعليم الساعات الطويلة، والواجبات المنزلية الكثيرة، والمقررات المدرسية الكثيفة والضخمة، التي يخلف حملها في حقيبة ثقيلة اعوجاجاً في العمود الفقري، والنتيجة طلاب لا يفرقون بين الفاعل والمفعول، ولا بين الضاد والظاء، ولا يتقنون القراءة والحساب وأبجديات العلم، وحين تجرأ أحد وزراء التعليم بتجربة التعليم المطور، اكتشفنا أنها أكبر من ثقافة المعلم ووعيه، وأكبر من تجهيزات المدارس وإمكاناتها، ولم نكتشف ذلك الخلل، وإنما منحنا المحافظين على نمط التعليم التقليدي فرصة النّيل من التحديث في التعليم!
نحن لدينا من الكهول والعجائز من هم أكثر حكمة من زوربا، وأكثر يقينا منه، بقيمة الحركة والتجربة أكثر من غيرها، لفهم الحياة بشكل أكثر عمقًا، وبناء المعارف الإنسانية من خلالها!