كتب - المحرر:
لا شك أن للشعر مكانته الرفيعة بين الناس منذ ميلاده، حيث يمثِّل الملاذ الصادق والراصد الدقيق لدواخل النفوس وخباياها والمعبّر عن ما لا يستطيع التعبير عنه غير الشاعر ولو تحدث الناس عن أثره ووقعه في نفوسهم لتحدثوا عنه باستفاضة حينما يتعلّق الموضوع بالحديث عن الشعر شعراً فإن أطيب من يتحدث عنه الشعراء أنفسهم ورؤيتهم له وقراءتهم لأنفسهم عنه أحيانا من خلاله يقول ابن الرومي:
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد
وما الناس إلا أعظم نخرات
ويقول أبو تمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درت
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
ويقول محمد حسن فقي:
وما الشِّعْرُ حُبٌ شاغِفٌ وصَبابةٌ
فَحَسْبُ. ولكنْ حكمةٌ وتأمُّلُ
جذبْتُ به نَحْوي الفَواتِنَ فَتْرَةً
من العُمْرِ. ثم انْجابَ عَنِّي التَّدَلُّلُ
فقد أَطْفَأَت دُنْيايَ مِن وقْدَةِ الصِّبا
وَوَلَّى شَبابٌ كان يَسْطو ويَجْهَلُ
وأَصْبَحَ شِعْري يَنْشُدُ الحَقَّ جاهراً
وما عادَ يُشْجِيهِ الهوى والتَّغَزُّلُ
وحين يثور الشعراء إنصافاً للشعر من أدعيائه وممتهنيه فإن القصة تختلف تماماً، إذ نجد الحرقة على مآله ووضعه بين يدي من لا يحفظون له قيمته ومكانته العالية.. وهنا أورد نموذجين لذلك الغضب: أولهما نص فصيح للدكتور الشاعر سعود الصاعدي:
ضاق ذرعاً بسلطة الأسماء
فاستطالت ثقافةُ الأدعياء!
غاض بحر الخليل فاهتزّ ذعراً
كيف تروي حثالةٌ في إنائي؟!
ليس إلاّ مُخادعٌ ودعيٌّ
كلُّهم يبحرون في شبر ماءِ!
وعييٌّ يعالج اللفظ عاماً
والمعاني سقيمةٌ في العراءِ!
يحرث الأرض في سنينٍ ويسقي
أرضه من لقائط الشعراء!
مكّنته من البيان عجوزٌ
قد حواها فصار في الأثرياء!
فتثنّى كأنّه غصنُ بانٍ
وتدلَّى كنجمةٍ في السماء!
صوته يسبق الرياح ويمشي
في المعاني كمشية السلحفاء!
يتغنّى بشعره كلُّ فدمٍ
يتهجّى قراءة الأسماء!
ودخيلٍ تهزّه كلُّ ثكلى
لم تذق من مراضع البلغاء!
في زمانٍ تفاصح العِيُّ فيه
وتحدّى منابر الخطباء!
وإذا تقدّم العييُّ خطيباً
صار نبلاً تقهقري للوراء!
إنّما الشعر خفقةٌ من فؤادٍ
حرّكته دوافع الأحشاء
ولسانٌ إذا تحدَّث أصغت
كلُّ أذنٍ، ونظرةٌ في الفضاء
إنّما الشعر نفخةٌ في أديمٍ
كان ميْتاً فصار في الأحياء
أيّها الشعر لا تلمني فإنّي
أتسلّى بوحدتي وانزوائي!
وأراني ملكت نفسي لأنّي
لا أراها تسير في الأضواء
فهي تحكي فراشة الحقل تهوى
لجّة الضوء، والردى في الضياء!
أيّها الشعر لاتلمني فإنّي
طعنتني خناجر السفهاء!
ورمتني بوابلٍ من غثاءٍ
فاعتنقني بزلّتي وغثائي
أو فدعني ألملم الجرح حيناً
كي تغذّى قريحتي من دمائي
فإذا النور حاكه الفجر دوّت
صرختي بالقصيدة العصماء
أما الثاني فلشاعر الحكمة عبدالله الطلحي، حيث يقول:
يا ظالم الشعر لا شاعر ولا يحزنون
لا تزحم الناس ما دام أن مالك محل
الشعر حالة تجي بين العقل والجنون
كنك من الشمس تنظر في دواير زحل
والشعر في لمعة البارق بغر المزون
قامت تخيله عيون البدو عقب المحل
والشعر في الوضح والبل كلها ما تهون
جت ضاوية خلفها تسمع هدير الفحل
والشعر في صوت نبع الما بظل الغصون
اللي عليها عصافير وزهور ونحل
والشعر في نظرةٍ خجلى بنجل العيون
نستلهمه من بياض الثلج بين الكحل
هذا هو الشعر والباقي مجرد ظنون
اللي بقى منخدع للوهم واللي رحل