للفقد في قلب الإنسان أثر ووقع لا يضاهيه شعور، لاسيما إذا كان الفقيد قامة وقيّمة وذا تأثير واضح في مجتمعه وفي من حوله، وقد كتب علينا الله أن نفقد خلال تلك الأيام المباركة وهذه الشهر الفضيل أخاً ومعلماً وصديقاً وفيّاً عصامياً محباً للعلم والتعلم. إن وفاة الأستاذ الدكتور محمد بن حمد الوهيبي، تركت في نفسي الكثير من الألم، فهو الصديق الذي ألفته منذ أكثر من 20 عاماً، وهو العالم النهم الذي ارتوى من نبعه آلاف الطلاب، وهو الشاب العصامي الذي بذل كل جهد وقدم كل وسع ليصل لمرتبة علمية وأدبية عالية لم تثنه يوماً عن مواصلة البحث والدراسة.
وفاة أبا حمد -كما هي وفاة الأحبة- تترك أثراً بالغاً في النفس، تجعلنا نردد قول الشاعر بهاء الدين زهير:
ويا خجلي إذا قالوا محبٌّ
ولم أنفعكَ في خطبٍ أتاكا
أرَى الباكينَ فيكَ مَعي كَثيراً
وليسَ كمنْ بكى من قد تباكى
جزاك اللهُ عني كلّ خيرٍ
وَأعْلَمُ أنّهُ عني جَزَاكَا
فيا قبرَ الحبيبِ ودِدتُ أنـَّي
حَمَلتُ ولو على عيني ثَراكا
تجسد حياة الفقيد -رحمه الله- المعنى الحقيقي للعصامية فقد ولد بمحافظة ثادق، ونشأ يتيم الأب، وخرج من بلدته فتى يافعاً صغير السن وعمل بالمنطقة الشرقية أثناء رحلته الدراسية، وتدرج في المراحل التعليمية حتى أكمل دراسته الجامعية ومن ثم الدراسات العليا، إلى أن وصل إلى درجة بروفيسور بجامعة الملك سعود.
الراحل -غفر الله له- كان نموذجاً حيّاً للمحب للعلم والتعلم، فقد كان نهماً حريصاً على الاطلاع على كل ما هو له صلة بتخصصه وهو علم النبات والأحياء الدقيقة، حتى أنني كلما أزوره في منزله أراه إما قابعاً على حاسبه الشخصي أو متصفحاً للمراجع العلمية والكتب التي تزخر بها مكتبته المنزلية.
كل من تعامل مع الدكتور محمد يدرك جليّاً أن البحث العلمي هو أحد المكونات الوجدانية لهذا الرجل، إذ إن له نحو 21 مؤلفاً علمياً في مجال تخصصه، إلى جانب 69 بحثاً في مختلف القضايا ذات الصلة بالنبات والأحياء الدقيقة، إضافة إلى مشاركته في موسوعة الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وهذا إن دل فإنما يدل على النهم الشديد والحب البالغ للعلم والتعلم لدى الفقيد تغمده الله بواسع رحمته.
كنت أتردد عليه في منزله بالرياض واستراحته في محافظة ثادق، وكان دائماً بين الكتب وحاسبه، وكان شعور بالدهشة والاستغراب يعتريني من حرصه على التعلم بهذه الطريقة، وكنت أقول له في أكثر من مناسبة ياعم لقد وصلت إلى أعلى درجة علمية -برفيسور-، فكان رده الحاسم دائماً «العلم لا نهاية له».
حِرص الراحل -رحمه الله- على العلم واعتكافه في مكتبته، جعله قليل الحضور للمناسبات الاجتماعية في العائلة، غير أنه كان كثير الزيارة لوالدي -شفاه الله- وكثير السؤال عنه عندما كنت أنا أزوره -رحمه الله-.
حقيقه كنت ومازلت أرى سيرة هذا الرجل العظيم مدعاة للفخر والاعتزاز لكل من يعرفه، ونموذجاً يحتذى به لكثير من شبابنا.
تعرض الراحل لوعكة صحية منذ غرة شهر شعبان أدخل على إثرها للمستشفى، وكنت أزوره بين الوقت والآخر في العناية المركزة للاطمئنان عليه وتفقد أحواله، حتى توفاه الله في 17 رمضان. الفقدان واقع أليم على النفس، ولكن عزاءنا أن سيرة الراحل مليئة بالخير والعطاء، والله الكريم نسأل أن يكون ما أصابه رفعاً للدرجات. رحمك الله أباحمد وأسكنك الفردوس الأعلى، والعزاء لأبنائه وأهل بيته ولي وأعمامي وأبناء العم وعائلة الوهيبي جميعا بالمملكة العربية السعودية.
- العميد سلطان بن حمد بن عبدالله الوهيبي