عبدالعزيز السماري
نعيش في زمن مختلف، فقد تكسرت خلاله كثير من الجدران، وأصبح الهامش يعيش في ميادين الصراع، ولم يعد هناك من يستطيع أن يخرس ألسنة الناس من التعبير عن أفكارهم، كان آخرها ذلك الموقف الاستنكاري لجريمة العصر، فقد عبر الناس من خلال وسائلهم عن رفضهم لنسق الفكر التفكيري من خلال وقوفهم مع شهيدة الوطن، والتي كشف حادث اغتيالها بطلان الفكر التفكيري، ومخالفته للفطرة السليمة.
ولا نحتاج إلى سرد الأدلة على بطلان هذا النهج، وسنكتفي بما تعلمناه من سيرة الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم، فهو لم يكفر أصحابه، ولم يقتل من ثبت بالوحي أنهم كفار، وفي ذلك درس عظيم للمسلمين، فحق إخراج الإنسان من الملة هو حق إلهي، ولا يمكن أن يدعي إنسان امتلاكه، وإن فعل فقد تجاوز حدوده الإنسانية كثيراً.
تناولت في مقالات سابقة أن نسق الإسلام السياسي المعاصر في أغلب أطروحاته يستخدم المنهج التكفيري لإقصاء معارضيه إما بالقتل أو الترهيب، ثم الانفراد بالحكم، ومن خلال مراجعة مقدمات أفكارهم يتضح أن بذرة التكفير السياسي بدأت من عبدالرحمن بن ملجم الذي قتل الإمام علي بن أبي طالب بعد تكفيره.
تعتبر حادثة اغتيال الإمام علي رضي الله عنه، نقطة التحول في تدشين مسار جديد في الفكر السياسي الديني، وقد نتج عنها طوائف ومذاهب تعتنق هذا الأسلوب، وتدعي الإيمان بالحق الإلهي في إصدار أحكام التكفير ضد مخالفيهم، وتشترك فيها مختلف الطوائف الحالية سواء كانوا سنة أو شيعة، فجميعهم يكفرون مخالفيهم، ويدعو بعضهم لقتالهم، والنتيجة حالة متشبعة بالكراهية، ومستقبل دموي مظلم، ما لم تستيقظ الأمة من سباتها، وتخرج هؤلاء من حياتهم.
وقد تناول كثير من الدعاة والمثقفين النسق التكفيري بين علماء السنة، واتضح للجميع أن بعض كتب التراث المرجعية مليئة بدعوات التكفير والقتل، كذلك أوضح أحد علماء الدين عند الشيعة، أن غالبية علماء الشيعة، إن لم يكن جلهم، يكفرون المخالف، وكان الاختلاف في هيئة التكفير، فإما أن يكون ظاهراً أو باطناً، ولهذا السبب نحن أمة مصابة بداء خطير، ونحتاج إلى معجزة للخروج من هذا النفق المظلم.
يتصف أصحاب النهج التكفيري عند السنة بالتسلط، ويتضح ذلك في مواقفهم المتشددة من الأئمة المعتدلين والمتسامحين، ولعل أشهرها الموقف الاقصائي من الإمام العظيم أبي حنيفة، والذي اندهشت مؤخراً أن بعضهم لا يزال يكفره إلي اليوم، بسبب موقفه السلبي من عقائد التكفير، كان آخرهم داعية سعودي غير مشهور، يروج لتكفير إمام كان له عظيم الأثر في إثراء الفقه الإسلامي، وفي تقديم رؤي منهجية عند التعامل مع التراث بمختلف مصادره القطعية والظنية الثبوت.
تبرز هذه الأيام ظاهرة المثقف الطائفي، وهي حالة متناقضة وشاذة، إذ لا يمكن أن تكون مثقفاً وطائفياً في آن واحد، ويشترك فيها مثقفون من الشيعة والسنة، يقدمون أطروحات طائفية في إطار ثقافي، وتزيد من حالة التوتر، ولهذا لا بد أن تتحرر الحالة الثقافية من الطائفية، وأن يتجاوز المثقف تلك الحالة المزدوجة من أجل أن يرى الصورة القاتمة من زاوية أفضل.
أحياناً تحتاج الأمم لمصائب وأحداث جلل من أجل إيقاظها من سباتها، وما يحدث الآن من كراهية وقتل للأبرياء في العراق وسوريا قد يكون محرضاً لليقظة من حالة الغيبوبة التي تعيشها الأمة العربية، فالتكفير والقتل وقود هلاك الأمم، أما في بلادنا العزيزة، فقد أيقظت الشهيدة هيلة العريني المجتمع من حالة الغيبوبة والتبعية التي كان يعيشها، وفتحت حادثة اغتيالها الأبواب الموصدة أمام الآباء والأمهات للاهتمام بعقول أبنائهم قبل أن تستولي عليها قوى الظلام والتكفير ..، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته..