«الجزيرة» - رويترز:
بعد الجرح الذي أصابت به بريطانيا نفسها باختيار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ربما يكون أفضل خيار متاح أمامها هو الحد من الأضرار المتبادلة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي هو نموذج مستوحى من أغنية «أوتيل كاليفورنيا».
وتقول كلمات الأغنية الشهيرة التي غناها فريق إيجلز عام 1977 «يمكنك إنهاء إجراءات الخروج في أي وقت تشاء لكنك لن تستطيع المغادرة أبدا».
فما إن تهدأ الزوبعة يمكن لبريطانيا أن تستكمل الشكل الرسمي للخروج بإخطار الاتحاد الأوروبي بالانفصال لكنها تبقى فعليا داخل أكبر تكتل تجاري في العالم من خلال الانضمام للمنطقة الاقتصادية الأوروبية مع النرويج.
ويمكن لبريطانيا التفاوض على تعزيز التعاون السياسي في مجال السياسة الخارجية والأمنية بل وربما يكون لها رأي مسموع في بعض المداولات الأوروبية دون أن يكون لها حق التصويت.
ومع ذلك يبدو من المستبعد أن يسود هذا الحل الذي يمثل ثاني أفضل الحلول المتاحة.
وربما تستغرق القيادة السياسية البريطانية التي شهدت انهيارا شهورا لإعادة تحديد المصلحة الوطنية فيما يتعلق بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي على نحو يتوافق مع إرادة الشعب التي عبر عنها استفتاء 23 يونيو- حزيران إذا أمكن ذلك.
وهذا أحد الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لعدم بدء إجراءات الانفصال على الفور من خلال إخطار الاتحاد الأوروبي بالانسحاب بموجب المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي التي تبدأ بمقتضاها عملية التفاوض على شروط الانفصال على مدى عامين.
وتريد أغلبية ساحقة في مجتمع المال والأعمال الاحتفاظ بحرية الاستفادة من السوق الأوروبية الموحدة التي يبلغ عدد المستهلكين فيها 500 مليون مستهلك الأمر الذي يعني الإبقاء على لوائح أوروبية وقبول استمرار حرية انتقال العاملين.
ولأن هذا المجتمع هو الذي يمول حزب المحافظين الحاكم فمن المفترض أن يكون له نفوذ على رئيس الوزراء التالي.
غير أن البريطانيين اختاروا في الاستفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي انضموا إليه عام 1973 وذلك لأسباب على رأسها الهجرة من دول الاتحاد الأوروبي ورغبة في «استعادة زمام السيطرة» على الحدود والتشريع.
وترك كاميرون كأس السم متمثلة في الإخطار الرسمي بالانفصال وبدء عملية التفاوض على الانفصال لمن سيخلفه في مقعد القيادة.
وأبرز المتنافسين على شغل مكانه كزعيم لحزب المحافظين ورئيس للوزراء في اقتراع على القيادة يجري يوم التاسع من سبتمبر- أيلول ليسوا في عجلة من أمرهم.
فقد قال مايكل جوف وزير العدل وتيريزا ماي وزيرة الداخلية إنهما لن يخطرا الاتحاد الأوروبي هذا العام بالانسحاب على أمل استطلاع الشروط التي قد تعرض مستقبلا لشكل العلاقات بين الجانبين قبل ذلك، بل إن جوف امتنع عن وضع جدول زمني للانفصال بينما قالت ماي التي كانت تؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي إن الانفصال قد يستغرق عدة سنوات.
أما الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وعددها 27 دولة فعازمة على تفادي إطالة فترة الغموض وما يصحبها من أضرار وتريد تسوية هذه المسألة قبل حملة انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019 التي يتوقع ألا تشارك فيها بريطانيا.
ومن هنا تحث هذه الدول بريطانيا على إطلاق الإخطار الرسمي بالانفصال في أسرع وقت ممكن وقد شددت على أنه لن تجري أي مفاوضات سواء رسمية أو غير رسمية إلى أن تأخذ بريطانيا تلك الخطوة.
كما أوضحت هذه الدول في أول اجتماع لها دون مشاركة بريطانيا أن النفاذ إلى السوق الموحدة يتطلب الاحترام الكامل لما يطلق عليه «الحريات الأربع» المتمثلة في انتقال البضائع ورأس المال والعمالة والخدمات.
وربما يعتقد الساسة البريطانيون أن الوقت في صالحهم وأن بوسعهم الحصول على صفقة أفضل بإطالة تلك الفترة الزمنية. لكن رغم أن الدول الأوروبية الأخرى لا يمكنها إرغام بريطانيا على بدء عملية الانفصال رسميا فهي تحتفط بأغلب أوراق اللعبة في أيديها.
وتحتفط حكومات الاتحاد الأوروبي بمفاتيح بوابات السوق الموحدة ولم يعد لبريطانيا هذا الحق بعد أن أصبحت الآن في طريقها للانفصال.
وسيؤدي طول فترة الغموض إلى الحد من الاستثمارات في بريطانيا، وربما يدفع الشركات المالية للابتعاد عن حي المال في لندن في الوقت الذي تستعد فيه منطقة اليورو للحياة دون بريطانيا.
وقال مسؤول بالاتحاد الأوروبي «كلما كانت فترة الاخطار أطول
زاد احتمال أن يحدث الانفصال كأمر واقع. وقد بدأ المال بالفعل يبتعد عن لندن».
وستنتقل عملية تسوية المعاملات باليورو إلى منطقة اليورو دون الانتظار لصفقة الانفصال.
ومع ذلك مازال الساسة المؤيدون للانفصال في حالة إنكار للخيار الصعب الذي يواجهونه.
والفكرة المهيمنة عليهم هي أن أوروبا لن تجرؤ على ذلك.
وقال كريس جرايلنجوهو من كبار المدافعين عن الانفصال في حكومة كاميرون لرويترز في مقابلة إن الاتحاد الأوروبي له مصلحة قوية في التوصل لترتيبات تجارية «معقولة» مع بريطانيا. وقال «الأمر يتعلق بنفاذهم إلى السوق البريطانية بقدر ما هو العكس»، مضيفا أنه سيتعين في أي مفاوضات حماية قطاع الخدمات المالية في بريطانيا وهو أكبر من أي قطاع مماثل في أوروبا.
وذهب نايجل فاراج زعيم حزب الاستقلال البريطاني المناهض للاتحاد الأوروبي لأبعد من ذلك فقال لأعضاء البرلمان الأوروبي
«إذا قطعتم أنوفكم لإغاظة وجوهكم ورفضتم أي فكرة لصفقة تجارية معقولة فستكون العواقب أوخم بكثير عليكم مما هي لنا». وأضاف أن الخطر سيحدق بآلاف الوظائف للعاملين بصناعة السيارات الألمانية إذا فرض الجانبان رسوما.
وفي الوقت الحالي يبدو أن المرشحين الرئيسيين لقيادة حزب
المحافظين يبتعدون عن فكرة البقاء في السوق الموحدة بسبب ما أبداه الناخبون من أولوية كاسحة للحد من الهجرة.
ويأمل البعض الحصول على وضع خاص آخر يتيح لبريطانيا سلطة أكبر فيما يتعلق بحرية انتقال العاملين.
وربما تتغير تلك الحسابات إذا حدث ركود اقتصادي أو بدأ تأثير انكماش في الوظائف أو زيادة اضطرابات العملة كما يتوقع اقتصاديون ومؤسسات مالية عالمية.
ويريد قطاع الخدمات المالية بشدة الإبقاء على الوضع الذي يسمح لبنوك لندن ومؤسساتها المالية ببيع خدمات في مختلف أنحاء القارة الأوروبية دون الحاجة لإقامة فروع مكلفة لها هناك.
ورغم النداء الذي أطلقه كاميرون أمام آخر قمة أوروبية شارك في أعمالها الأسبوع الماضي فإن حرية انتقال العمالة داخل الاتحاد الأوروبي ليست مسألة كبيرة لشركاء بريطانيا.
وسيؤدي تغيير اللوائح المعمول بها إلى انقسامات عميقة، وتشعر الدول المصدرة للعمالة مثل بولندا والمجر ورومانيا بأنها بذلت كل ما في وسعها لمساعدة لندن وذلك بالموافقة على صفقة تم
التوصل إليها في فبراير شباط.
ولذلك لا يوجد وضع يساند بريطانيا فيما يتعلق بحرية انتقال الأفراد لتسهيل قبول نموذج «أوتيل كاليفورنيا».