فيصل أكرم
دائماً، في كتابات النقاد عن (السير الذاتية) يأتي ذكر (الخيال).. ودائماً، يرفض كاتب سيرته أن يعترف بأي خيال تعمّده وهو يكتب ما تمليه عليه الذاكرة بكل واقعيتها. هنا مسألة في غاية الحساسية، فهل الناقد يصف العمل (السيري) بالخيال فقط لأنه يريد أن يمارس دوره في (النقد) ولو بكلمة انتقادية بعد سيول من كلمات الإشادة والإطراء والاستحسان؟ أم أن الكاتب يتخيّل فعلاً وهو يتذكّر ويكتب ذكرياته، فيخلط بين الواقع والخيال حتى وإن لم يتعمد ذلك الخلط أو يشعر به؟
الجواب عندي ربما، بوصفي أحد من كتبوا بعض أشياء عن سيرهم الذاتية (مداخل إلى الفصل الأول من سيرة سيف بن أعطى) في كتاب صدر قبل عشر سنوات.. فالآن، والآن فقط، أثناء مراجعتي لبروفة طبعة جديدة من الكتاب انتبهتُ لهذه الفقرة في مدخل الضياع الأول:
(مشى الصغير والشمس عمودية فوقه حتى أسقطته بأشعتها الملتهبة، فغاب عن الوعي.. لم يصحُ سيفٌ من إغماءته إلا بعد أن غابت الشمس تماماً.. أفاق على صوت الكلاب التي كانت تنبح على مقربة منه.. لأول مرة يشعر سيف أنه وحده مع الكلاب.. كان صوت الكلاب مألوفًا لديه، فشوارع مكة كانت لا تخلو من الكلاب السائبة، وأصواتها كانت تملأ ليالي مكة بالأنس!؛ ولكنّ سيفًا الآن وحده، يكاد الظمأ أن يقتله، وأصوات الكلاب مخيفة جدًا، والليلة كانت ظلماء لا قمر فيها..).
ليس الخيال بأكثر غرابة من الواقع في كل الأحوال، آمنتُ بذلك منذ زمن بعيد وازداد إيماني به حين انتبهتُ الآن إلى هذا الخطأ (الكونيّ) في تلك الفقرة من الكتاب.. فضياع سيف بن أعطى كان في نهار الوقفة بمشعر عرفات، وحين هبط عليه الليل كان لا بدّ أن ثلثي القمر في السماء – فالوقفة بعرفات يوم التاسع من ذي الحجة دائماً! – وعليه فقد بدا للطفل سيف أن (الليلة ظلماء) وراح يؤكّد بإلحاح على أنها (لا قمر فيها) كيف، وهي ليلة العاشر من الشهر القمري؟! هو (الخيال) طبعاً.. فلو افترضنا أن السماء كانت غائمة فاحتجب القمر، لما قال في أول الفقرة بأن الشمس كانت عمودية نهاراً وملتهبة!
خطر ببالي، أول ما اكتشفتُ هذا الخطأ الذي كشفَ الخيالَ في عملٍ كنتُ أحسبه واقعياً تماماً، ورقة الدكتور حسين المناصرة حول (سيف بن أعطى) التي ألقاها في ملتقى (قراءة النص) بنادي جدة الثقافي الأدبي عام 2007 وتضمّنها كتابه (وهج السرد.. مقاربات في الخطاب السردي السعودي) فقد ختمها بهذه السطور:
(إذا استطعنا قراءة هذه العناصر السردية الروائية في نص « سيرة سيف بن أعطى»، فنحن حينئذ، ومن خلال اعتباره سيرة ذاتية في الأساس، نستطيع أن نصفه بأنه سيرة ذاتية روائية، بكل ما يعنيه هذا المصطلح من دلالات وإيحاءات، تحافظ على النص في دائرة السيرة الذاتية وميثاقها الأول: الواقعية والصدق، وفي الوقت نفسه تفضي به إلى تقنيات الرواية وميثاقها الأول: الخيال).
أقول بصدق: كنتُ منزعجاً من كلمة (الخيال) التي ختم بها الدكتور حسين دراسته القيّمة، وأكثر من انزعاجي منها كان انزعاجي من وصف (رواية).. ولكن بعد انتباهي لخطأ (الليلة الظلماء في العاشر من ذي الحجة!) اقتنعتُ بأن الخيال صفة حقيقية من الصفات الضرورية لكل كتابة أدبية، حتى وإن كانت سيرة ذاتية، وأن كل سيرة ذاتية هي عمل (روائي)!