د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
العالم الذي نعيش فيه بطبيعة متداخلة، الجميع يتأثر بما يحدث في بقية أنحاء العالم، والتعددية هي أهم مصادر الميزات التنافسية التي صنعت العولمة، والاختلاف على الأولويات تقود إلى حرق الأصول التي حققتها العولمة في الفترة الماضية، خصوصاً في سوق الأوراق المالية المبالغ في تقدير قيمتها على نحو يقود إلى انهيار الأسواق سريعاً، بل وتنهار حتى شرعية بعض الحكومات التي تساوم على الحكم مقابل الثراء.
بينما دول العالم العربي تواجه هياكل السلطة فيه تحديات بدء من القمة وحتى القاع، بسبب أنها دول متعددة ولكنها تفتقر إلى التعددية، وتعتمد على المحاصصة الطائفية مثل الحكومات في العراق ولبنان، وبعضها يكتفي بالاستقرار الذي يحرم تلك المجتمعات من الابتكار التي تتمتع به الدول المتقدمة التي تحكم نفسها أفقياً بأبناء شعبها من جميع الألوان والقوميات والأديان والمذاهب، أي أنها طبقت دعوة الإسلام ما لم يتمكن العرب والمسلمون من تطبيق دعوة إسلامهم لأسباب عديدة أهمها الفهم القاصر لحقيقة دينهم التي شوهت صورة الإسلام السمح وجوهره الحقيقي الداعي للتعارف بين الأمم التي خلقت صراعات داخلية وخلقت مجتمع تأثيمي لا يقر بالتغيرات الكبرى في حياته ويتمسك بأهداب مسلمات متخيلة تؤمن له الركون، ورفض التعايش مع الآخر، بسبب أن بعض المتشددين المسيطرون على الساحة يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار على غرار اليهود الذين انتقدهم القران الكريم، لأنهم لم يعترفوا بأن التسامح ليس هبة يتفضل بها طرف على الآخر، إنما هو حق تنتزعه المجتمعات بالتساوي وثمرة مران طويل.
العالم يعاني مشاكل في الاقتصاد الحقيقي نتيجة تفاقم علة الأسواق الناشئة أكثر من ضغوط الأسواق المالية، وهي تعاني نهاية عصر شهد نمواً سريعاً يقوده الاستثمار في الصين، وتراجع نمو التجارة العالمية إلى مستويات لم تشهدها منذ جيل، حيث إن الانخفاض في أسهم وعملات الأسواق الناشئة وصل إلى مستويات تعادل مستويات الأزمة، حيث أصبحت الأسواق الناشئة بمثابة الخصم الصافي لنمو التجارة العالمية للمرة الأولى منذ عام 2009، بعدما كانت المحرك الديناميكي بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 ساعدت في جر العالم مرة أخرى إلى النمو، لكن هذا الزخم استنزف الآن تقريباً.
اتفقت الدول الصناعية الكبرى التي اجتمعت في سينداي شمال شرق اليابان والولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وكندا، على أهمية مواجهة أبرز المخاطر التي يشهدها العالم حالياً والمتمثلة في الإرهاب، حيث نشرت اليابان 23 ألف رجل شرطة لتأمين أعمال القمة، كما وضعت البحرية مدمرة قبالة الشاطئ بالقرب من مكان انعقاد الاجتماع في فندق الجزيرة الذي اجتمع فيه الزعماء، وعد هذا هو الانتشار الأمني الأكبر منذ عقود في بلد ينظر إليه على أنه واحد من أكثر البلدان أماناً في العالم.
لكن مجموعة السبع اختلفت في التوافق حول الأولويات والآليات التي يجب انتهاجها لتصحيح معدلات النمو، ولم تقدم أي رد منسق، بل اكتفت بالدعوة إلى الاستخدام المتوازن لجميع الأدوات النقدية والمالية والهيكلية المتوافرة لديها، وعدم استهداف أسعار الصرف، هذا الموضوع أدى إلى نقاش حاد بين الولايات المتحدة واليابان المستضيف للمجموعة، بل كادت كل من واشنطن وطوكيو أن تشتبكا في ظل تراشقات عن حرب العملات، التي هددت اليابان أخيراً بالتدخل لوقف ارتفاع سعر الين، حيث تشتكي اليابان من تحركات مفاجئة ومغرضة وتنم عن مضاربة، وفي نفس الوقت وجهت الولايات المتحدة تحذيراً قوياً بسبب ما تصفه واشنطن بتدخل غير مبرر من جانب طوكيو لكبح مكاسب الين، في مؤشر على خلاف بين الدولتين بشأن سعر الصرف، ومن جانب آخر حاول رئيس وزراء اليابان شينزو آبي الذي يستضيف القمة الحصول على دعم لجهوده المحلية لدعم الاقتصاد الياباني المتعثر بحافز مالي، فيما عارضت ألمانيا بشكل خاص هذا الاقتراح.
تباين الرؤية بين أمريكا واليابان خرج من السرية إلى العلن، حيث بدت الفجوة بين تصورات كل طرف حول السياسة المالية الواجب اتباعها لإخراج الاقتصاد الدولي من أزمته بدت شديدة الاتساع، أما الحديث عن التهديد بحرب عملات مكتومة بين المشاركين، فهي واضحة وكبيرة بعدما وصل الخلاف هذه المرة إلى مرحلة نادرة الحدوث لم تشهدها الاجتماعات السابقة على الأقل علانية.
الفائدة الأمريكية ترمومتر الاقتصاد الأمريكي وفزاعة الأسواق العالمية، فبانخفاض أسعار الفائدة سيطرت تداولات خالية من المخاطر عملت على رفع الدولار ودفعت أسعار السلع والأسهم إلى أدنى وسط عمليات البيع المكثف توقف الانتعاش الوليد في سندات وأسهم وعملات الأسواق الناشئة على نحو فاجأ المستثمرين في مارس وإبريل 2016، أي أن ارتفاع العملة الأمريكية تمثل ضغطاً اقتصادياً كبيراً على الأسواق الناشئة وقد يدفع إلى تنامي حالات الإفلاس في بعض الدول بسبب أن ديون الشركات الخاصة في الاقتصادات الناشئة تقارب نحو 19 تريليون دولار ولا تقل النسبة الدولارية لهذه الديون ضمن إجمالي ديون الشركات الخاصة بين 25 و35 في المائة، وفي بعض الاقتصادات تتجاوز 50 في المائة.
كما أن رفع الفائدة سيفقد المستثمرين وصناديق التحوط المبرر للاستثمار في الذهب ويتحولون إلى الاستثمار في العملات، ويتسبب رفع الفائدة في رفع تكاليف الاقتراض، وحسب بنك التسويات الدولية، أن القروض المصرفية المقومة بالدولار البالغة أربعة تريليونات دولار التي تحتفظ بها المؤسسات غير المصرفية في الأسواق الناشئة منذ عام 2015 وهي كومة من السندات التي تعاني عندما ترتفع العملة الاحتياطية ومعدلات الفائدة في الولايات المتحدة.
لن يبعث الدولار القوي الابتسامات لحاملي الأصول الخطرة، كما ستتأذى الأسهم في الولايات المتحدة نتيجة الإيرادات الخارجية الأضعف، وتترجم قوة الدولار إلى تراجع في أسعار السلع ما يحفز مخاوف تضخم عالمية، أي أن قوة الدولار مشكلة بالنسبة للأسواق العالمية، وبالتالي يبقي السياسة على الهامش.
بالنسبة للمستثمرين وصناع القرار في العالم يعتبر الدولار ما يشبه البركان النشط الذي ينفث السوائل بين قطاعات محددة تغطي الأسهم والسندات والسلع والأسواق الناشئة، ما يعني بجلاء أن يتجاوز الدولار الحدود الضيقة لتداول العملات.
ارتفاع الدولار له تبعات اقتصادية متعددة في اتجاهات متضاربة، فهو يؤثر سلباً على الصادرات الأمريكية، لكنه من جانب آخر يجذب رؤوس الأموال الدولية للمصارف الأمريكية، وبمقدار ما له من تداعيات سلبية على عملية الاقتراض، فإنه يعزز مكانة الدولار في سلة احتياطي العملات الدولية، لأنه سيتم التحول من الذهب إلى الدولا، ما سيفقد المعدن النفيس الكثير من قيمته، وذلك له تأثير إيجابي على الاقتصاد الأمريكي ككل رغم ذلك أصبح الاقتصاديون أمام وضع ملتبس (بينما نموذج المشاركة وفق الصيرفة الإسلامية الذي لا يؤمن بنموذج أسعار الفائدة الموجبة أو السلبية تدعم الاقتصاد الحقيقي وهو نموذج لا يسمح بالمتاجرة بالعملات، وعندما يلجأ العالم إلى تقييم هذا النموذج يجدونه يدور في فلك أسعار الفائدة، لذلك هم لا يجدون بديلاً لأسعار الفائدة جاهزاً تم تجريبه في عالم الاقتصاد).
مشكلة مجموعة السبع تكمن في افتقادها أفكاراً جديدة قادرة على إخراج الاقتصاد الدولي من عثرته، بسبب أن السياسات النقدية التي اتبعت أعقاب الأزمة الاقتصادية، باتت مع مرور الوقت عبئاً متزايداً على الاقتصاد الكلي على المستوى الدولي، لذلك نلاحظ أن ألمانيا تعارض مثل تلك السياسات، بسبب أنها أضحت في حالة نزاع نتيجة عدم إمكانية توجيه أسعار الفائدة في جميع البلدان في اتجاه واحد، وإذا نظرنا إلى أسعار الفائدة على المستوى الدولي، فسيجدون أنفسهم أمام نطاق متنوع، وأن السياسة النقدية التي انطلقت قبل ثمانية أعوام، تبدو متناقضة من بلد لآخر، وهذا يستبعد وجود حل جماعي قادر على النهوض بالاقتصاد العالمي، خصوصاً إذا واصلت مجموعة السبع استبعاد اقتصادات كبيرة مثل الاقتصاد الصيني والهندي وغيرهما، لأن عزلها يقود إلى تعزيز الانعزال في الاقتصاد الدولي، وبذلك تكون مجموعة العشرين هي المجموعة الأقدر على قيادة الاقتصاد العالمي.
وسعت ألمانيا وفرنسا إلى حل الخلاف الأمريكي الياباني، لأن استخدام سلاح أسعار الصرف لتعزيز مكانته الاقتصادية يكشف عن قلق كبير بإمكانية خروج الوضع عن السيطرة، وفي هذه الحالة سيكون اقتصاد منطقة اليورو أحد أكبر المتضررين من هذا الصراع، لأن الولايات المتحدة تحذر اليابان من الإفراط في استخدام السياسة النقدية لإصلاح الاقتصاد وتحفيزه على النمو، بينما وجهة نظر الولايات المتحدة أن الاقتصاد الياباني في حاجة إلى إصلاحات هيكلية، حتى سياسة زيادة ضريبة المبيعات التي تنوي اليابان تطبيقها لم يبد الجانب الأمريكي ترحيباً كبيراً بل طالبت أمريكا بتأجيلها، ما اعتبرته اليابان تدخلاً أمريكياً مباشراً في تحديد السياسات الاقتصادية الداخلية لليابان.
لا يوجد داخل مجموعة السبع اتفاق حول نسب السياسة النقدية والضريبية والإصلاح الهيكلي داخل إجمالي حزمة الإصلاح المطلوبة في الاقتصاد الدولي، وحتى ألمانيا بدت مع حلفائها تغرد خارج السرب، وهي تنتقد العمل بسياسات نقدية مرنة ومتساهلة، بينما تعتمد الدول الأوروبية الأخرى سياسة التيسير الكمي عبر طبع مزيد من العملة وضخها في الاقتصاد الوطني لدعمه، حيث لم ترحب ألمانيا بهذا المنطق الاقتصادي، واعتبرت أن إصلاح الهياكل الاقتصادية هو الحل الجوهري للأزمة الاقتصادية العالمية، وليس ضخ مزيد من الأموال، فيما تتبنى ألمانيا سياسات تقشفية مفرطة، وتجاهر بأن ذلك هو المدخل الحقيقي للإصلاح عبر خفض الإنفاق، وهو يتناقض مع موقف ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي حتى مع موقف واشنطن، وهو ما يكشف عن شرخ واضح في إمكانية تبني سياسات جماعية قادرة على تحقيق ما يصبو إليه قادة مجموعة السبع من دفع عجلة النمو الاقتصادي العالمي.
حيث استطاعت طوكيو وبكين أن تتجرعان مضادات اقتصادية للحساسية السياسية والتاريخية والتوجه نحو أكبر اتفاقية تجارة على وجه الأرض مع كوريا الجنوبية بعد أن عانت الصادرات اليابانية من ارتفاع قيمة الين إلى أعلى مستوياته منذ 18 شهراً في مقابل الدولار، فيما ستتراجع المبادلات مع الصين، بينما يعي رجال الاقتصاد في العملاقين الصيني والياباني هذا الارتباط القوي بين الاقتصادين، ويعرفان أن نجاة اقتصاد دولتيهما أو حتى خفض خسائر التباطؤ العالمي يعتمد على الشراكة وزيادة التعاون في جنوب شرقي آسيا.
وبعيداً عن نهاية التاريخ فإن العالم يعود مجدداً إلى بدايته، حيث بلدان طريق الحرير كانت ذات مرة المحور الذي يدور حوله العالم، واليوم تعود المنطقة من جديد محركاً لدفع التحولات العالمية.
أكد زعماء مجموعة السبع في ختام قمتهم في 27-5-2016 أن النمو العالمي يمثل أولوية ملحة، إلا أنهم مع ذلك أفسحوا المجال لتعتمد كل دولة المقاربة الأنسب لها في مؤشر على استمرار الانقسامات حول طريقة تعزيز النمو.
يكشف هذا التوافق على مضض الخلافات التي شهدتها اجتماعات القمة التي شملت حتى تحديد مدى سوء الوضع الحالي، وكان عدم الاستقرار الاقتصادي على رأس القضايا المطروحة على جدول أعمال القمة، إلا أن النقطة المجمع عليها خلال القمة كانت في الرفض التام لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي يمكن أن يشكل خطراً جسيماً على النمو العالمي، وأضافوا أن الانسحاب البريطاني سيعكس اتجاه نمو التجارة العالمية والاستثمار، وفرص العمل التي تحدثها.
كما أجمع الزعماء على أن أزمة المهاجرين التي تواجهها أوروبا، تعد مشكلة عالمية، مما يتطلب رداً عالمياً، كما تمسك الزعماء بموقفهم الثابت فيما يتعلق بالعقوبات على روسيا مشيرين إلى أن رفع العقوبات يرتبط بوضوح بالتنفيذ الكامل لاتفاق سلام شرق أوكرانيا محذرين من أنهم يمكن أن يصعدوا الوضع إذا فشلت موسكو في الاضطلاع بدورها.