إبراهيم عبدالله العمار
من يرى المجتمع الأمريكي والغربي عموماً سيرى شيئاً شنيعاً: انحطاط لا نكاد نعرف له مثيلاً في التاريخ. رغم ما وصلوا إليه من علم، إلا أن مفاهيم العفة والشرف ماتت هناك وصار المجتمع يعبد شيئاً واحداً: الشهوة، سواءً شهوة المال أو الجسد أو أي شيء. {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}. لهذا استغربتُ لما وقعتُ على كتاب اسمه «عودة إلى الحياء» كتبته شابة أمريكية اسمها وندي شاليت، فلما شدّني عنوانه قرأته وتفاجأت تماماً مما فيه! الكاتبة تنادي بعودة الحياء والعفة للمجتمع الأمريكي! معقول؟
بعد بعض التفكير بدا لي أن الإجابة: نعم، معقول. إن شدة الانحلال الأخلاقي الذي وصلت له أمريكا قد أفرز صيحات مثل هذه، صيحات تَقزّزت من انغماس البشر في عبادة الجسد والمال وتدعو الناس أن يرفعوا أبصارهم وطموحاتهم إلى أشياء أرقى وأنزه من هذه، منها الحياء.
لكن ما الذي دعاها أن تضع هذا الكتاب؟ تقول إن تجاربها مع غياب الحياء هناك بدأت منذ طفولتها، فلما كانت طالبة صغيرة بدأت مَدرستها تعلِّم الطالبات عن الجنس، وذلك في عمر 10 سنين! ولاحظَت أن هذا تزامن مع قيام المراهقين الذكور بالتحرّش بالطالبات. مثلاً عام 1993م قالت أكثر من 4200 فتاة لمجلة خاصة بالمراهقات أنهن تعرضن للقرص واللمس والتعليقات التحرّشية في المدرسة، وهذه الأشياء تحصل بتكرار، وفي العلن. باحثون في جامعة ولسلي وجدوا أن خُمسي الطالبات يتعرّضن للتحرّش بشكل يومي، وقرابة الثلث قلن إنهن يتعرّضن له كل أسبوع. تقول الكاتبة وندي: «الأولاد لم يكونوا يضايقونني، لأنني لم أكن أعرف ما يشيرون إليه أو ما يقصدون، فكلما بدأوا التعليقات توقفوا إذا أعطيتهم نظرة محتارة وقلت لهم: «لا أدري عمّ تتكلمون، كنت في المكتبة». تقول وندي إنها حصلت على إذن من المدرسة - بطلب من والدتها - أن تبتعد عن صفوف التعليم المخلة هذه وتجلس في المكتبة.
حالات التحرّش تزداد بشكل كبير إذا كبرت الفتاة، وهذا ما مرّ على وندي نفسها ورأته في غيرها، وليست مصادفة أن التحرّش والملاحقة والاغتصاب تزيد عندما نكشف كل شيء، بل إن الكاتبة قالت: «إن المجتمع الذي يحارب خجل المرأة وإحراجها لهو مجتمع يعادي المرأة نفسها».
يعادي المرأة! كلمة عاقلة من امرأة عاقلة، وقد صاغتها بطريقةٍ جميلة، فشعور المرأة بالخجل من الحواجز التي تحول بينها وبين من يريد بها شراً ليرضي شهواته، وهذا الخجل والحياء موجود لدى المرأة المسلمة، أما الأمريكية فليس معروفاً لديها اليوم وهذا ما أتى عليها بالوبال، وقارن وضع الأمريكية اليوم بالماضي، ولنستشهد بكلام المؤرِّخ الفرنسي الشهير توكوفيل الذي سافر لأمريكا قبل قرابة 200 سنة ودوّن عنها كثيراً. يقول توكوفيل: «إن شرف الأمريكية حُفظ بمعاقبة الاغتصاب بالقتل. إن المشرّعين الأمريكان الذين جعلوا كل بند تقريباً من القانون الجنائي أقل شدة من ذي قبل ما زالوا يعاقبون الاغتصاب بالقتل، ولا يوجد أي جريمة أخرى تعامَل بهذه الغلظة من قِبل الرأي العام، وهناك سبب لهذا، فالأمريكان يرون أن لا شيء أغلى من شرف المرأة، ولا شيء يستحق الاحترام أكثر من حريتها، لذلك يرون أن سلبها من كلا الاثنين يستحق أشد العقوبات. لدينا في فرنسا فإن نفس الجريمة لها عقوبات أخف بكثير ويصعب أن تجد هيئة محلفين تُدين هذا. هل السبب احتقار العفة أم احتقار المرأة؟ أظن كليهما».
تختم الكاتبة هذه الفقرة بالتحسّر على تلك الأيام فتقول: «ما أعظم الاختلاف بين هذا وبين حالنا اليوم!». وتنادي في الكتاب بعودة الحياء ومفاهيم العفة والشرف إلى أمريكا لتنقذها من الطلاق والتباغض بين الرجال والنساء، بل حتى الجرائم الكثيرة التي يسببها امتهان الرجال للمرأة هناك ونظرهم لها أنها مساوية لهم كالرجل.