محمد آل الشيخ
من يقرأ ويستقرئ التاريخ العالمي المعاصر لا بد وأن يصل إلى حقيقة مؤداها أن الدولة الدينية، بالشكل الإمبراطوري، الذي عرفها التاريخ، لا يمكن البتة أن تستمر، خاصة وأن العالم اليوم أصبح كالقرية الصغيرة، والمتجانسة، التي تقوم على قيم وعوامل وشروط بقاء جديدة، تختلف اختلافاً قد يكون جذرياً عن الإمبراطوريات والممالك التي عرفها التاريخ.. هذه القيم العالمية الجديدة لا يمكن لهذه الدولة أو تلك أن تتعايش مع العالم دون قبولها حتماً وليس خياراً.
رجال الدين الشيعة هم من يتربعون منفردين على عرش السلطة في إيران كما هو معروف؛ لذلك فإن دستورها وقوانينها المنبثقة عنه، تدور في فلك (الحرام والحلال) من وجهة نظر فقهية شيعية. ويترأس قمة السلطة فيها رجل دبن معمم، يملك كافة الصلاحيات الدينية والدنيوية، بشكل ديكتاتوري محض؛ ويبقى في منصبه طوال حياته، لا يتغير ولا يتبدل؛ وتبقى اللعبة الديمقراطية تحت سقف سلطات رجل الدين، مطلق الصلاحية، والذي يسمى (الولي الفقيه)؛ أي أن الديمقراطية التي تأتي برئيس الدولة، ومجلس الشورى، وغيرها من المجالس السلطوية والرقابية، يستطيع (الولي الفقيه) أن ينسفها وينسف مقتضياتها بجرة قلم, والحرس الثوري المرتبط بالولي الفقيه ارتباطاً مباشراً يأتي في تركيبة السلطات بمثابة (عصا الولي الفقيه)، ولا يأتمر بأمر غيره.
والحلم الذي يسيطر على رجال الدين في إيران أن يبنوا إمبراطورية فارسية صفوية، تستطيع بقوة السلاح أن تهيمن، إما مباشرة، أو عن طريق عملاء، على العالم الإسلامي، من جاكرتا شرقاً وحتى المغرب الأقصى غرباً، ومن تركيا شمالاً وحتى اليمن جنوباً؛ وهو في سبيل هذا الحلم الإمبراطوري على استعداد أن تنفق الأموال بلا حساب، وأن تثير من الاضطرابات والفتن، ما يمهد لها عمليا أن تحشر أنفها، بهدف ترسيخ نفوذها وبالتالي سيطرتها، على جغرافيا العالم الإسلامي.
والسؤال الذي يثيره السياق: هل يستطيعون عملياً إقامة هذا الحلم الإمبراطوري في عالم اليوم؟.. لا أعتقد أن عاقلاً، لديه إلمام ولو بسيط بمجريات السياسات المعاصرة، سيقول (نعم)؛ والسبب أن من يسيطر عليه التاريخ، ويعيش في بوتقته، ويستمد منه أمثلته، ويهمش مقتضيات العصر، سيبوء بالفشل؛ فالدولة الدينية أو سمها إن أردت الكهنوتية، لا بد وأن تكون مذهبية؛ حيث تنحصر القوة والسلطة ليس في دين معين وحسب، وإنما في مذهب معين أيضاً؛ ولا يمكن اليوم، وفي ظل العالم الذي نعيش فيه، أن تستمر دولة دينية أو مذهبية، تعطي لصاحب هذا المذهب أفضلية على من سواه من الموطنين؛ ربما أن هذه الدولة تستمر عقوداً من الزمن، لكن فناءها وتلاشيها سيكون قطعاً حتمياً، ليس بسبب غزو من الخارج مثلاً، ولكن بسبب التباينات المذهبية، وربما الإثنية، التي تزداد تبايناً واتساعاً مع مرور الزمن، لتنتهي إلى السقوط ومن ثم (التجزئة والتشظي) إلى دول؛ وأقرب مثال لما أقول دولة (الاتحاد السوفييتي)، التي كانت في حكم الإمبراطورية، ورغم قوتها، وامتلاكها القوة النووية، التي تسعى إيران أيضاً إلى امتلاكها، لم تستطع أن تبقى لأسباب موضوعية، ولم ينفعها أيديولوجيتها التي تعول عليها.. لذلك فأنا على يقين أن إيران تسعى بخطى حثيثة إلى مأزق مؤداه إما الانهيار والتلاشي، أو تتحول إلى (دولة مدنية)، وتترك عنها وهم التوسع والامتداد.
إلى اللقاء،،،