د.محمد بن عبدالرحمن البشر
رحلة ابن جبير رحلة مشهورة، سطّر مشاهداته في تلك الرحلة، فخدم الجغرافيين والمؤرِّخين والعلماء والسياسيين، وهو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي البلنسي، وإن شئت فقل الغرناطي، وقد سطّر ابن جبير هذا السِّفر الثمين عام 581هـ الموافق لعام 1186ميلادية، ولن يتم التطرق إلى الرحلة وسردها، فهذا متاح في كتاب الرحلة، لكن سنتوقف عند ما نقله المؤرٍّخون في وقفتين تستحق التوقف عندها، ومن ذلك ما ذكر عن سبب الرحلة لهذا العالم المسلم الملتزم، فقد نقل أنه قال إن الأمير أبو سعيد استدعاه ذات يوم، وأبو سعيد هذا أمير موحدي، كان حاكماً في غرناطة في عصر الموحدين، وهم الذين ورثوا حكم الأندلس من المرابطين، وقد قام حكمهم على أساس ديني، وقد استطاعوا حكم المغرب والجزء الإسلامي من الأندلس، وامتد سلطانهم نحو أجزاء واسعة من جنوب البحر الأبيض المتوسط، لكنهم مع الأسف لم يستعيدوا الأرض الإسلامية من أيدي الأسبان الذين أخذوها بالقوة من أصحابها الذين عاشوا على ترابها أكثر من خمسمائة وخمسين عاماً، ثم امتد بعد ذلك إلى نحو مائتين وخمسين أخرى في عصر بني الأحمر.
لنعود إلى ابن جبير وإبي سعيد، فقد ذكر أن أبا سعيد كان جالساً في جلسة من جلسات أنسه والأقداح أمامه، وكان ابن جبير حاضراً، فطلب منه المشاركة فاعتذر، لكن الأمير الموحدي أصر وأقسم على ابن جبير يميناً مغلظة أن يشرب سبعة أقداح، فأخذ الأول واسترجع لكن الأمير الموحدي أصر فأكمل ابن جبير سبعة أقداح، فملأ الأمير الموحدي الأقداح الفارغة دنانير، ولهذا فقد عزم ابن جبير على أن يحج بمقدار تلك الدنانير تكفيراً عن ما ارتكبه من خطأ فادح.
هنا لابد لنا أن نتوقف عند هذه القصة لنفترض أنها ربما تكون من نسج الورّاقين أو الناقلين، أو ربما تكون حقيقة، إلاّ أن غير المعقول يجب التوقف عنده قبل الحكم عليه، كما هي الحال الآن فيما تناقله وسائل الإعلام من أخبار وقصص حول الأحداث والدول والأشخاص، وما تستطيع التقنية الحديثة من صنعه بطريقة ابتكارية أن تميزها عن الحقيقة، من تداخل الصور القديمة والحديثة، والتلاعب بالجمل والأصوات وهذا أمر سائد في هذا الزمان، والغريب أن الأغلب يصدق تلك الأقوال ويراها حقيقة وبعد حين، يتبين له الغث من السمين ثم ينسى بسرعة البرق ليصدق مرة أخرى فيظهر خلاف ذلك، حتى يتطابق ما قيل مع ما وقع، فينسى كل تلك الأكاذيب ويؤمن بصدق المصدر، وإن كان كذب ألف وصدق مرة واحدة، وهذا ينطبق على من توهم بصدق أولئك الدجالين الذين يظهرون عند كل عام ليطرحوا توقعاتهم للعام الجديد، فيكذبون مرات وتوافق الأحداث بالصدفة توقعاتهم، فيهلل لهم المستعدون سلفاً لتصديق تلك الأقوال.
الوقفة الثانية، ما ذكر ابن جبير بأنّ أمناء السلطان صلاح الدين الأيوبي قد صعدوا إلى مركب الحجاج الذي فيه ابن جبير وطلبوا من المسلمين تسجيل أسمائهم، ودفع الزكاة مما بأيديهم، وهم حجاج ليس معهم إلاّ زاد مسافر جاء لقضاء الفريضة، وقد آلم ابن جبير هذا الصنيع وتساءل ابن جبير عن سبب طلب الزكاة من أناس لا يعلم أمناء السلطان إن كان قد حل الحول على ما بيدهم، إن كان فيه زكاة أصلاً.
هنا يمكن القول إن ذلك محتمل لأنّ صلاح الدين الأيوبي في ذلك الوقت كان بالشام، وربما أن ولاة السلطان وأمناءه فعلوا ما فعلوا من تلقاء أنفسهم رغبة في جمع المال، وهذا ليس ببعيد، ولهذا فإنه ليس من الحق أن يحكم على الحاكم بما يقترفه أعوانه إذا لم يكن لديه علم بذلك، أو ربما أن هذه كانت عادة سائدة، واستمرت كذلك، ولم يلتفت أحد إلى تصحيحها لأنها لم تثر من قبل المتضررين، أو لم يصل قولهم إلى السلطان، فسارت الأمور كما هي دون تغيير، وهذا ممكن أن يقع في ذلك العصر، وفي هذا العصر وفي كل عصر.
هاتان الوقفتان تعطيان شيئاً من ملامح تلك الرحلة، ولنا عودة إليها.