د.محمد بن سعد الشويعر
هناك أمور كثيرة تتعلق بالأفكار الدنيوية كالفراسة وتفسير الأحلام... إلخ. وقد جاء في سجل الإسلام ومصدرَي التشريع نماذج كثيرة. والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى توجيهًا عما يعتري النائم من أحلام بأن ينقلب على جنبه، ويتعوذ بالله من الشيطان، فإن هذه الرؤيا لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا، وما ذلك إلا أن بعض الرؤى فيها ما يدفع النفس إلى مخاوف.
فابن سيرين الذي قيل عنه إنه ممن وهبه الله تعبير الرؤيا يرى أن للرؤيا التي يحرص الناس على تأويلها شروطًا، منها معرفة الفصل من السنة؛ إذ إن كل فصل له دلالته، ومنها: أن تكون وقت جني الثمار، أن يكون الحالم غير معتل بمرض أو نحوه، وأن يكون عند المنام وسطًا بين الشبع والجوع، وسليم المزاج، كما يقارن الرؤيا بحرفة الشخص.
وعندما يستعرض الإنسان نماذج من تفسير علماء الإسلام للأحلام فإنه يلمس منهم فراسة لا تكون إلا لمن وهبه الله علمًا وعقلاً، فوق الناس العاديين. وما النباهة التي تأتي في السير الذاتية لكثير من علماء الإسلام وغيرهم إلا جزء من أسرار النفس البشرية. وإن من المناسب في هذا الموقف إيراد ما وقع لأحد علماء المسلمين، يتضح منه صحة الفراسة التي هي جزء من أسرار هذه النفس التي خصها الله - وهو خالقها - بعجائب لا تحصى، وقدرات يجب التمعن فيها، وإدراك فضل الله على عباده.
قال الخطيب البغدادي في تاريخه بسند متصل إلى أبي الحسن علي بن إسحاق بن راهويه: ولد من بطن أمه مثقوب الأذنين. قال: فمضى جدي راهويه إلى الفضل بن موسى البناني فسأل عن ذلك. فقال: ولد لي ولد، خرج من بطن أمه مثقوب الأذنين. فأجابه الفضل قائلاً: يكون ابنك رأسًا، إما في الخير وإما في الشر.
فكأن الفضل - والله أعلم - تفرس فيه أنه لما تفرد عن المواليد كلهم بهذه الخاصية أن يتفرد عنهم بالرئاسة في الدين أو الدنيا.
وقد كان - رحمه الله - رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنة والجلالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكسر الجهمية وأهل البدع ببلاد خراسان، وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان.
وعنه انتشرت هناك، وقد كان له مقامات محمودة عند السلطان يظفره الله فيها بأعدائه، ويخزيهم على يديه. وقد تعجب منه السلطان والحاضرون في مناظراته.
كما قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله - حتى قال محمد بن أسلم الطوسي: لو كان الثوري حيًّا لاحتاج إلى إسحاق بن راهويه. فأخبر بذلك أحمد بن سعيد الرباطي فقال: والله لو كان الثوري وابن عينية والحمادان في الحياة لاحتاجوا إلى إسحاق. فأخبر بذلك محمد بن يحيى الصفان فقال: والله لو كان الحسن البصري حيًّا لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة. وكان الإمام أحمد بن حنبل يسميه أمير المؤمنين (الخطيب البغدادي في تاريخه ص 148).
والفراسة هي فطنة؛ إذ ينظر الإنسان بعلامات تفتح له مجالاً واسعًا، وليست ميسرة لكل شخص، بل هي هبة من الله جلت قدرته، يجب أن يقرنها صاحبها بالعمل الإيماني، والمنزلة التعبدية؛ لأنها سر من أسرار النفس يتفاوت فيها البشر، كما يتفاوتون في خصائص عديدة: كالذكاء والحفظ وحدة النظر وإرهاف الحس والصبر والتحمل، وغير ذلك من القدرات التي ينميها حسن التوكل على الله، وترك المعاصي، كما قال الشافعي - رحمه الله - عندما اشتكى إلى شيخه رغبة في العلم، وخوفًا من الفوات:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاصي
فسبحانك يا رب ما أعظم فضلك، وما أكثر ما تمن به على هذه النفوس البشرية من هبات وعطايا لا تُحصى، وما أبلغ ما أودعت فينا من أسرار وعجائب هي منك، فأعنا على شكرها وذكرها، وتجاوز عن قصورنا وأخطائنا، فإنك جواد كريم.
والله الموفق.