أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: غادرنا شهر رمضان المبارك أعاده الله علينا وعليكم أعواماً كثيرة ونحن في حياة سعيدة مديدة تكسب عملاً صالحاً إلى أن نلقى ربنا وهو راض عنا.. وفي شهر رمضان في أي عام كان بشريان خاصتان لمن قام شهر رمضان إيماناً واحتساباً، ولمن صامه بتلك الصفة أيضاً، ولمن تحرى ليلة القدر بتلك الصفة؛ فصادفها.. الأولى العتق من النار؛ وذلك هو المفلح الذي ضمن الله له دخول الجنة بدأً؛ لأن وعد الله حق لا خلف فيه.. والبشرى الثانية غفران ما تقدم من الذنوب؛ فهذا لا يضمن حسن الخاتمة؛ فعلى من كان في شهر رمضان على الصفات الثلاث التي أسلفتها: أن يجتهد في الدعاء بأن يعتقه الله من النار، وأن يحييه مسلماً ويميته مسلماً.. وقبل تحقيق هذه المسألة أحب أن أقف بكم عند هذا النص النفيس جداً عن معنى رجحان ميزان الحسنات؛ وهو للإمام ابن حزم.. قال رحمه الله تعالى في كتابه: (رسالة التلخيص لوجوه التخليص) بتحقيق أبي عبدالملك سعود بن خلف ابن نويميس الشمري بتقديمي ومراجعتي/ نشر مكتبة ودار ابن حزم بالرياض الطبعة الأولى عام 1426هـ ص133 -134: ((واعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله عزّ وجلّ ابتدأنا بمواهب خمس جليلة لا يهلك على الله بعدهن إلا هالك؛ وهي أنه تعالى غفر الصغائر باجتناب الكبائر؛ فلو أن امرأً وافى عرصة القيامة بملء الأرض صغائر إلا أنه لم يأت كبيرة، أو أتاها ثم تاب منها: لما طالبه الله بشيء منها.. قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (31) سورة النساء.
والثانية: [أن] من أكثر من الكبائر، ثم منحه الله التوبة النصوحة على حقها وشروطها قبل موته: فقد سقط عنه جميعها، ولا يؤاخذه ربه تعالى بشيء منها؛ وهذا إجماع من الأمة.
والثالثة: أن من عمل من الكبائر ما شاء الله، ثم مات مصراً عليها، ثم استوت حسناته وسيئاته لم يفضل له [الأصح عليه] سيئة: مغفور له، غير مؤاخذ بشيء مما فعل.. قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (114) سورة هود، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} (6) سورة القارعة.
والرابعة: أنه تعالى جعل السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن شاء.
والخامسة: أنه تعالى جعل الابتداء على من أحاطت به خطيئته، وغلب شره على خيره) بالعذاب والعقاب، ثم نقله عنه [أي عن العذاب] بالشفاعة إلى الجنة؛ فخلده فيها.. ولم يجعل ابتداء جزائه على حسناته بالجنة، ثم ينقله منها إلى النار؛ فهل بعد ذلك الفضل منزلة؟.. نسأل الله أن لا يدخلنا في عداد من يعذبه بمنه؛ فهذا أصلحنا الله وإياكم جواب ما سألتم عنه مما يكفر الذنوب الكبائر)).
قال أبو عبدالرحمن: موهبة الرب جل جلاله لم أر أحداً من العلماء لفت النظر إليها؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. ومن تعنى لوجوه الاشتقاق من مادة (رمض).. التي منها اسم (رمضان): سيجد أنها تعني جهاد النفس؛ لكي تقوى على ممارسة العزائم كمن يتدرب على وطء الرمضاء مرارا؛ ليقوى على المشي في اليوم الحار.. ومثل ذلك وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الاخشيشان.. إلخ؛ فربنا تبارك اسمه سبحانه وتعالى يربي من استجاب لطاعة شرعه في شهر رمضان المبارك (صياماً وقياماً احتساباً وطلباً للقربى عند ربه) على طاعات في المستقبل يتحقق معها حسنات وثواب تلحق العبد (؛ والفخر بالعبودية لله شرف للمؤمن) بالذين أنعم الله عليهم.. والشهر منذ حلوله إلى ارتحاله عند العابد الجاد كأنه أقل من أسبوع.. ودعك من المصالح الدنيوية الصحية، وما يجلب الراحة النفسية؛ فكل طاعة لشرع الله تحقق ذلك.. وإلى لقاء في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى عن موضوع آخر؛ وهو ما يتعلق بالتربية التي أسلفتها، والله المستعان.