د. عبدالحق عزوزي
في مختلف المقالات التي كنت قد كتبتها في صحيفة الجزيرة الغراء عن موضوع الإرهاب الغاشم، خرجنا بخلاصتين اثنتين صالحتين لإيجاد مخرج معقول للأزمات الخانقة والعاتية التي تمر بها العديد من الأوطان العربية، أما الأولى فتوحي إلى مسلمة مفادها أن الإرهاب مصيبة آزفة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، وأن الإرهاب لا دين له ولا ملة، فالإرهابيون لا يردون بالمنطق العام بل الشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان. وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، لسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقنا فهو كافر مرتد. وكل من درس أو قرأ في الطب النفسي يعرف أن من خصائص مرض الذهان أن يلجأ المصاب به إلى الإفراط في التوكيد؛ لكنه يجنح في ذلك إلى منطقه الخاص لا إلى المنطق العام، ويسرف في التصورات الشخصية غير الواقعية، ويعجز عن مطابقة فهمه وتصوره وتعبيره للواقع؛ ومن ثم فهو يعيش في حالة من الفصام بينه وبين الحياة السوية السليمة الواقعية.
والثانية هي أن الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، بل لا بد من قطع أصل الداء وإزالته إزالة نهائية والقيام بعملية جراحية مفصلية فيها الفلاح للبلدان ولمستقبل العباد والأجيال.. الحلول السطحية نتائجها محدودة ومسكنة لوقت قصير..
إن الإرهاب المجالي اليوم هو بالضرورة نتيجة لإرهاب لا مادي أو لا مجالي مبني على الإقناع الإيديولوجي وعلى الشعارات السياسية الدينية الخاطئة وعلى الصيغ الهلامية التي لا تناقش بالعقل بل تتوالى وتنتشر بنهج الإعلان ولا تعترف بالحدود، وهو ما يفسر العمليات الإرهابية الفردية في الدول الغربية كما وقع في كيبيك وأوتاوا أو في سيدني أو كما وقع في باريس الفرنسية وبروكسيل البلجيكية، ولكن الجديد اليوم فإن المطارات أضحت صيداً ثميناً وهدفاً بالنسبة لها، لاسيما بعد الحوادث التي عرفتها مطارات دول غربية، أجهزتها الأمنية متطورة وعمليات التفتيش فيها جد دقيقة بينها مطار شارل ديغول في العاصمة الفرنسية باريس ومطار بروكسيل - زافينتيم الدولي في بلجيكا، ومنذ أيام في مطار أتاتورك الدولي في مدينة إسطنبول العاصمة الاقتصادية لتركيا بامتياز، وهو نقطة التقاء ما يقرب 30 مليون مسافر يزورون تركيا سنوياً.
فلسنا في صدد جرس تنبيه يقوم به جنرالات الجيوش لتدريب العسكر وقوات التدخل السريع، أو في عمليات إرهابية افتراضية، وإنما هي حقيقة مرة وخاسفة بالاقتصادات الوطنية، وبعجلة الحياة السياحية والاجتماعية ناهيك عن القتلى والجرحى والرعب الذي يسري في قلوب البشر والمسافرين.
استهداف المطارات أصبح اليوم هدفا استراتيجياً بالنسبة للإرهابيين جماعات وأفراداً، لأنها أكثر الأمكنة ازدحاماً بالمسافرين من جنسيات عالمية، وتحدث زلازل في عمق المجتمع الوطني والدولي، ويمتد تأثيراتها إلى كل القطاعات، فخسائر البورصة مثلاً تكون فورية، وإلغاء الآلاف من تذاكر السفر تصبح مسألة طبيعية، وتعطيل وكالات الأسفار والقطاع السياحي بأكمله يكون مصيبة داهية على الآلاف بل الملايين من الذين يشتغلون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في القطاع السياسي، فتشتد الأزمة المالية، وتكثر البطالة، وتغلق الفنادق، ويسرح العمال والموظفون.. فتكلفة الهجوم على مطار من المطارات مرتفعة جداً لأنها هجوم على مكان من أكثر الأماكن المكلفة في البلد والعالم، ولأنها هجوم على مكان سيادي، يعبر عن هبة الدولة، وقوة اقتصادها ومؤسساتها، كما يعبر عن أمنها القومي.
والذي يخيفني، أن هاته المجموعات القليلة التي لا تتعدى ثلاثة أفراد مادامت أنها استطاعت الوصول إلى مطارات العواصم الأوروبية، فإنها يمكن أن تصل إلى أي مطار في العالم، وبالأخص الدول ذات وسائل الأمن المحدودة والرشوة المرتفعة كما هو شأن دول إفريقيا جنوب الصحراء. ثم وهذا هو الأخطر فمجموعات كداعش تمتلك مجموعة صواريخ متوسطة المدى ومنظومة كاملة للتدخل الجوي ولديها الخبراء المدربين على استعمال كل أنواع الطائرات وإطلاق الصواريخ، وما ينقصها في الغالب هو بعض المطارات للانطلاق منها، ولا ننسى أنها يمكن أن تنجح في الفوضى العارمة في بلدان كليبيا شمال إفريقيا وجنوب المتوسط، والعراق وسوريا واليمن في عقر منطقة الشرق الأوسط. التحدي خطير وخطير جدا ويستلزم رداً استراتيجيا في مواجهة عدو له عدة أسماء تلخصها كلمة «الإرهابيين» ولكن بدون مكان مجالي محدد لتواجدهم ولاستئصالهم، وهنا الكارثة.