فيصل أكرم
قضيتُ الأيام (الطويلة جداً) الماضية، التي تخللتها أيام عيد الفطر، في مكان يخلو من الكائنات الحيّة عدا كائنين جمعاً كل الأحداث الحيّة للكائنات القاتلة والمقتولة في آن (الكمبيوتر والتلفزيون).. أما بقية الكائنات التي كانت بصحبتي، كالكتب مثلاً، فقد كانت ميتة تماماً.. لا حياة فيها حالياً.. فأيُّ حياة في كتب التاريخ مثلاً؟ قيل إن قائل عبارة (التاريخ يعيد نفسه) فيلسوف يوناني متوفى قبل الميلاد بمئات السنين. وأيُّ حياة في دواوين الشعر؟ يقول أبو العلاء المعرّي:
(مَن ساءَه سببٌ أو هالَه عَجَبُ
فَلِي ثمانونَ عاماً لا أرى عَجَبا
الدّهرُ كالدّهرِ والأيّامُ واحدةٌ
والنّاسُ كالنّاسِ والدّنيا لِمَن غَلَبا)
كلامٌ عظيمٌ لا يزال خالداً برغم (موته) تماماً.. فالدهرُ لم يعد كالدهر ولا الناس كالناس، ثمة عجائب لم يرها أبو العلاء ولا من كان قبله من شعراء. عجائب نراها ونسمعها ولا نستطيع لمسها أو التحدث عنها أو إليها، بالضبط مثلما كنا في طفولتنا الرملية حين نرى (الحيّة) ونسمع فحيحها ولا نستطيع الاقتراب منها ولا نذكر اسمها حتى لا يظهر لنا مثيلها(!). أيها التاريخ (الحيّ) الآن: عفواً، لقد أصبحنا نخافك. لا نريد ذكر أسمائنا فيك. يا ليتنا كنا ضمن المذكورين في التاريخ (الميْت) القديم، فأهله أحياء وإن ماتت مقولاتهم.. كالطيور على شجرة ميتة ولا تزال موجودة واقفة، وتقف عليها طيورٌ لم تقتل نفسها بلا سبب.. ذلك التاريخ، كان فيه قتلٌ طبعاً، منذ ابنيْ أبينا آدم - عليه السلام؛ ولكنه القتل المضرّج بالأسباب، القتل الذي اعتاد عليه التاريخ، حين يعيد التاريخُ نفسَه.. ميتاً وأسبابه حيّة؛ غير أن تاريخنا الحيّ الآن أسبابه ميتة في الأصل، لا حياة حتى لمجرد التفكير فيها، فكيف يفعلها التاريخُ إحداثاً للقتل في حياتنا بلا أسباب؟!
كنا صغاراً، نقرأ عن حرب أسطورية خاضها أخٌ حمايةً لنزوة أخيه (الإلياذة)، ونسمع عن قريب يقتل قريبه طمعاً بممتلكاته (ما أكثرها)، ونراقب من تلك العجائب ما يعيدها التاريخُ الميتُ لأن أسبابها حيّة. أما ما نشاهده على (الشاشات) الآن، بصورة ملوّنة وصوت مضخّم، فلسنا بحاجة إلى قراءته بحثاً عن أسباب. لقد فشلتْ - برأيي- كلّ محاولات إيجاد أسباب له. هو تاريخٌ حيٌّ - للأسف- بلا أسباب. لا أجد سبباً واضحاً لهذا التاريخ الذي يُحسب علينا الآن ونُحسب عليه سوى قتلنا في التاريخ نفسه. بماذا سوف تذكرنا أممٌ تأتي بعدنا؟ بأنّ كان منّا من يقتل أهله ونفسه معاً؟ كيف سيجدون أسباباً لقاتل يقتل أقرب الناس إلى نفسه ويقتل نفسه معهم؟ لا. ليس كقصص الحبّ والغيرة، حين يقتل العاشق عشيقته وينتحر! هنا شيءٌ مختلفٌ يتحدث الكلُّ عنه ولكنّ قدرتي على الفهم لم تستطع استيعاب أي سبب من الأسباب التي يتحدثون عنها. لستُ قليل المعرفة بالقدر الذي يجعلني الجاهل الوحيد بينهم، وأزعمُ أنني قرأتُ التاريخ كما لم يقرأه غيري، لهذا أقول إن التاريخ الذي نعرفه ونعود إليه قد أصبح ميتاً، لم يعد قادراً على إعادة نفسه كما عوّدنا، برغم أن أسبابه لا تزال حيّة ما دامت على الأرض حياة.. أما التاريخ الذي يتحرّك كحركة (الحيّة) في راهن أرضنا فهو أعجبُ من أن تكون له أسباب. هو شيء لا شبيه له ولا أسباب. ومن يرد إيقافه عليه أن يعمد إلى إخفائه؛ هل يستطيع أحدٌ إخفاء التاريخ؟ يا ليت أننا نستطيع، فهذا التاريخ يقتلنا في التاريخ؛ لن يستطيع قتل حياتنا في حياتنا ولكنه يقتل تاريخنا في تاريخنا.
* * *
ولأن الحياة ليست كلُّها تاريخاً، سأعود إلى بدء الكلام، عن الأيام التي كنتُ -ولا أزال - أتأمل فيها بعضَ ما يجري من حولي، وبالطبع فالأوْلى من ذلك تأمّلي لحالي، مخاطباً نفسي في ذاتية أحسبها أكثر جدوى من كل كلامٍ عام:
(فإذا مشيتَ، فهل لبابْ؟
وإذا انسدحتَ، فهل تنامْ؟
قدَراً بقيتَ بلا صِحابْ
فبمِصرَ أنتَ، وهُم بشامْ
من مكّةَ اخترتَ الغيابْ
فلتحتمل هذا الظلامْ
ولتبقَ عبئاً للثيابْ
متجنباً كلَّ الزحامْ
...
هل قلتُ شِعراً؟ لا
ولكن..
خِفتُ أن أنسى الكلامْ)!
كان ذلك في الثاني من شوال.. الثاني من عيد الفطر، المعروف في التاريخ الذي يعيد نفسه بالعيد (السعيد)؛ ولا أعرف بالضبط أيَّ عام.