د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا أظنُّ أنَّ شهرة شعرائنا العرب يمكن قصرها على جودة الإنتاج الفني الذي يُقدِّمونه، وإن كان هذا المعيار هو الأساس الأول الذي تنطلق منه هذه الشهرة؛ إذ إنَّ ظروفاً سياسية واجتماعية تسهم بشكل كبير في تعزيز انتشار اسمه، وتأكيد حضوره في كتب التراث الأدبي، ويبدو أنَّ شاعرنا ابن هانئ الأندلسي لم يكن له حظ من هذه الظروف رغم إنتاجه الفني الجيد، ونصوصه التي تميزت بروعة الصورة وجمال الأداء ودقة اللفظ وبراعة التركيب، فمن منا يعرف هذا الشاعر القدير؟ وكم نصاً نحفظه له؟
يذكر المؤرخون أنَّ ابن هانئ في النصف الأول من القرن الرابع الهجري بين عامي 320هـ و362هـ حين كان العالم الإسلامي في بداية تمزقه السياسي بفعل الثورات والانقسامات الداخلية، فقد كان بنو أمية في الأندلس على جانبٍ كبيرٍ من القوة، كما تمكَّن الفاطميون في تونس من توحيد المغرب العربي وصقلية حتى تمكنوا من الاستيلاء على مصر عام 358هـ، في هذه الحقبة عاش ابن هانئ، وتغنَّى بأمجادها، وسجَّل في نصوصه الرائعة الفاخرة أعظم انتصاراتها، ساعده في ذلك أنَّ الحضارة الإسلامية والحياة العلمية والأدبية والفلسفية كانت في أزهى عصورها تقدُّماً وحيويةً وإنتاجاً.
تنقّل ابن هانئ بين إشبيلية وقرطبة والمهدية والقيروان، وفي الأخيرة كان اتصال شاعرنا بالمعز لدين الله عام 353هـ، فلقي عنده تقديراً فائقاً ومكانةً بزَّت جميع شعراء البلاط، فبقي يمدحه ويعيش في ظله حتى رحل إلى مصر حيث قُتل هناك، وحُرم المعزُّ من شاعريته.
وابن هانئ أزدي ينحدر من سلاسة عربية عريقة، وينتسب إلى قبيلة يمنية أنجبت القائد العربي الشهير المهلب بن أبي صفرة الأزدي الذي تولى بعض أحفاده أمر بلاد المغرب في صدر الدولة العباسية، وهو يعتز كثيراً بهذا النسب، ويرى في نفسه القدرة على إحياء مجدها العظيم حين يقول:
ذرني أُجَدِّدُ ذلك العهد الذي
أعيا على الأيام أن يتقشَّبا
وهو مع هذا المجد العريض لا يرى الإنسان إلا ابن سعيه الخاص، حيث ينبغي أن تكون حدود طموحه وأمنياته مرتفعةً دائماً:
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
وبالهمَّة العلياء يرقى إلى العلا
فمن كان أرقى هِمَّةً كان أظهرا
ولم يتأخَّر مَنْ يريدُ تقدُّماً
ولم يتقدَّم مَنْ يريدُ تأخُّرا
ومما عُرف عن ابن هانئ أنه لم يكن متحفِّظاً في حياته العامة ولا الخاصة، بل حتى مع علاقاته مع الأمير، بل كان منطلقاً في اللهو، يستمتع بكلِّ ما في شبابه من حيوية ونزق، وبجميع ما يملأ يديه من عطايا وهبات، وكان إلى هذا حرَّ التفكير جريئاً في إعلان أفكاره وآرائه في الفلسفة والدين والسياسة، وهو ما لم يعجب سكان الأندلس، ولم يلبث أن نقم عليه أهل إشبيلية، فرحل بعد نصح الأمير له إلى المغرب، حيث البيئة والسياسة والدولة تشتركان معه في العقيدة الدينية والمذهب السياسي.
ثم رحل إلى الزاب واتصل بجعفر بن الأندلسية وأخيه يحيى فانتجع ببابهما، ولزما رحابهما، فأكرما وفادته، وأحسنا إليه، وأغدقا عليه النعم والهبات التي أبدلت بؤسه نعيماً باذخاً ومكانةً عالية، يقول في ذلك:
فلا تسألاني عن زماني الذي خلا
فو العصر إني قبل يحيى لفي خسر
ثم استقدمه المعز لدين الله وأكرمه، ورأى إن فتح مصراً أنه سيحتاج إليه في مدحه وإعلاء شأنه، فأكرمه إكراماً عظيماً، وأهدى إليه تحفاً كثيرة، وأقام له قصراً في القيروان، لأنه أدرك طاقته الشعرية وقوة تعبيره، وعمق إخلاصه له، وإيمانه بالدعوة الفاطمية، فقرَّر أن يجعله لساناً مدوياً للفاطميين ويسجِّل أمجادهم، فاصطحبه معه إلى مصر.
وحين أشرف المعز على حدود مصر الغربية استأذنه شاعرنا إلى أفريقية لجلب عياله وماله فأذن له، وفي (برقة) لقي ابن هانئ حتفه في ظروف غامضة، حيث وُجد مقتولاً، ولم يُعرف قاتله ولا سبب قتله، فقيل إن جماعة استضافوه فقتلوه، وقيل إن الأمويين كان لهم يدٌ في قتله تخلصاً من لسانه المسخَّر في خدمة الدعوة الفاطمية، وهو رأي ليس له ما يؤيده من ظروف سياسية آنذاك، إذ إن العداء بين الأمويين والفاطميين كان موجوداً منذ وجود المعز الفاطمي في إفريقية، ولو كان لهم مصلحة في قتله لاغتالوه هناك وهو بالمغرب قبل أن ينتقل إلى المشرق، أما الرأي الأكثر قبولاً عند المؤرخين فهو أنَّ خوارج إفريقية المناهضين للفاطميين هم من دبَّروا اغتياله.
ومهما يكن من أمر فقد كانت وفاته يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من شهر رجب من عام 362هـ، وقد كان عمره 36 أو 42 عاماً، ولما بلغ المعز خبر مقتله أسف أسفاً شديداً وقال: «هذا الذي كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يُقدَّر لنا ذلك».
أما ثقافته فشعره مرآة لها، إذ لم يقتصر في معارفه على الجوانب الدينية واللغوية والأدبية، بل تسربت إليه الفلسفة فتأثر بها وصبغت شعره بمسحة عقلية ظاهرة، وإن كانت ليست بذاك العمق، ولعل من أشد المؤثرات الأدبية في ثقافته القرآن الكريم والشعر الجاهلي، إذ أكسب الأول شعره قوةً في التعبير وتضميناً للمعاني، أما الشعر الجاهلي فيظهر تأثيره في حفاوة الشاعر بالغريب، وفي قوة السبك وكثرة الصور والأخيلة المرتبطة بذلك العصر القديم، بل لولا عنايته بوصف الطبيعة وتسجيله لعصرٍ إسلاميٍّ ظاهر الخصائص لكان ابن هانئ شاعراً جاهلياً لا يختلف عن امرئ القيس وعنترة، ولعل هذا هو ما جعل بعض النقَّاد يرون فيه شاعراً يعيش في غير بيئته، ونماذج من شعره في الجزء الثاني من هذه المساحة كفيلةٌ بأن تكشف للقارئ الحصيف عن براعة شاعرنا وثقافته وجمال تصويره الفني.