سعد البواردي
- إبراهيم محمد الدامغ
- 188 صفحة من القطع المتوسط
شقيقان. شقيان متلازمان. البوح بالنسبة إليهما محظور.. إشاعتهما وإذاعتهما تعني إباحتهما دون غموض.. أو تحرٍّ.
وشاعرنا الدامغ دفع شعره بالأصالة دون تكلف.. يطرحه في بساطة وعفوية دون تكلف.. بصراحته وصرامته المعهودة، رفع عقيرته صارخاً وقد تعرت أوراق الحلم لديه وتحولت إلى جفاف.. كان حلمه عربياً.. وأبيّاً جرفه التيار.. ولم يبق من أثره على شيء.. هكذا يتساءل وهو يقول:
«إلى أين نسير.. بعد أن ضاقت الدنيا في عينيه:
لولا العقوق لما وصلت عقيرتي
بالراكعين لذمة الأخلاق
ولما نسجت شعيرتي بشعارهم
ونسبت عاطفتي لهم. وعطافي
وما بعد النسيان واليأس الا الطلاق حتى ولو كان مُرًّا!:
فلقد يئست من العروبة حيثما
كانت. وعفت ذخيرتي وسلافي
لم يُبق على شيء:
فطويت كشحي عن هزيم لجاجهم
وصرفت دون فجاجهم أعطافي
وبنيت من نسج الخيال سفينتي
وغمرتُ من وهم السراة ضفافي
هذا كان بالأمس يوم أن كانت الهزائم مجرد عضة في جسد يتحرك.. مازالت لديه بقايا من حياة! بأية لغة سوف يتحدث شاعرنا وهو يشهد العروبة بدون عرب.. ويشهد العرب بدون هوية ولا أهل.. إنه يشتكي لوطن تخلى عنه أهله لغاصبيه:
وطني وكيف أراك بين سليبة
وتربية.. ومشرد ومساف
علقت بذمتك الحياة واجهزت
يد غاصبيك على قرى. وصحاف
لم يبق إلا الرماد.. والانقاض.. والقتلى.. والجياع والاغتصاب.. والتشرد.. واللجوء من الموت حرقاً إلى الموت غرقاً في مياه المتوسط.
أشير إلى كلمة تربية التي وردت في دعائك لوطنك.. ربما تقصد تريبة كي يستقيم البيت:
من فينا يعشق الفقر؟! شاعرنا الدامغ عشقه اصطفاه حبيبا مستبدا ومطلقا..
عشقته.. وغيره لا أعشق
فهو الحبيب المستبد. المطلق
عشقته. وندبه في مهجتي
تصلب كما يريد. أحمق
في قراءاتي للوهلة الأولى أرى عاشقا للظلم لا يعرف العشق ولا يهواه..!
ومن غرائب الهوى في خاطري
اني أحب ظالما لا يعشق..
أشبه باللغز المحير ذلك الهوى القائم على الاستبداد كشفه لنا في قوله:
لغزان شاء الله أن أراهما
ظلامة حيرى. وحظ أفرق
سبحت في لجيهما محنطا
لا أعرف التجديف حين أشرق
ومن تكون رياشه من علة
فقلبه في حبها معلق..
إنها حكاية المغلوب على أمره لا يستطيع فكاكا من شكواه.. إنه الفقر.. قدره ونصيبه في الرضى والسخط.. أي انه مكره لا بطل.. لا يملك أكثر من رفع الراية البيضاء لا حبا..ولا كرها.. ولا عشقا.. ولا صلحا.. تسميتها هي نفسها موشحة بالفقر إيجابا وسلبا لأنه لا يتغير.
شهدها في حلمه قبيل الفجر بملامحها الفاتنة فكانت القصيدة:
رحماك يا حلوة العينين رحماك
ما أروع السحر يسري في محياك
فإن تمنعتِ أو مانعتِ لن تفدي
الا إلى منتهى بوحي بنجواك
أشرع للسحر في مسراها بارقة أمل. طافت به الأخيلة في سماء لا يعرفها.. وكان الدفء تخيلها أكثر وجدا.. وصبابة: نفس المشهد لأحلام ما بعد منتصف الليل تبدو مربكة بين أن يصدق أو لا يصدق.. عذوبة الحلم تستهويه.. وعذابات الوهم تستفزه.. وبين نارين ناجاها:
يا منية النفس من أغراكِ بي فلقد
ذللت ناصيتي بالأسر حاشاكِ
ما كنت يا جنتي العذراء مغتربا
إلا إلى منتهى ريي برياكِ
فاستمهلي العمر يا وسناء منحته
فما تألق يوماً دون مسراك..
انتهى المشهد..
استهوته أبها بسرها.. وسحرها.. بنسيمها العذب. وطبيعتها الفاتنة.. ما أبهى.. قال عنها:
أبها لقد شرفت إليكِ مشاعري
وغرستُ فيكِ تبتلي وصيامي
في كل عام لي إليكِ مسيرة
أطوي على نغماتها أيامي
فأعود نحوك والهاً متعطشاً
نهم الصبابة.. ساجع الأنغام
أعطاها ما تستحق من توصيف ومن توظيف لمفردات شعره.. وأدبيات مشاعره.. تل الزهور.. ووريق الدوح.. والورد. وملاعب الآرام. والأغصان. والقمم التي تعانق الغيم.. والطير المغرد.. والمزيد أيضاً..
فالأرض تبرٌ. والجداول عسجدٌ
والماء نبعٌ متدفق.. وهمام
وترائب الطور المدل سبائك
من فضة نثرت على الآكام..
لم يبق شيئا إلا وأتى عليه رغم اعترافه بالنسيان.. وما نسي..
ولقد نسيت.. وما نسيت بعارض
شغف البلاد وصبيتي ومقامي
كان رائعاً وهو يرسم بقلمه وقلبه صورة بانورامية ملؤها الوله. والصدق.. وأصالة التعبير.