إبراهيم عبدالله العمار
في إحدى ليالي عام 1900م كان المهندس البريطاني سيسل بوث يتعشى في أحد مطاعم لندن، ثم أدهش الناس حوله لما قام من كرسيه ووضع منديلاً على ذراع الكرسي وجعل فمه على المنديل ثم شفط الهواء! وزادت دهشة الناس لما رأوه يلتقط المنديل ويلاحظ حَلقة سوداء من التراب والوساخة... ويبتسم!
لماذا هذه الابتسامة الظافرة؟ لأن سيسل أكّد فكرته: أن الشفط أفضل من النفخ. أتت هذه الفكرة لما حَضَر عرضاً لأحد المخترعين في محطة القطار، الذي أتى بجهاز جديد قال إنه ينظف المقطورات، طريقته أن ينفخ الهواء عبر أنبوب كبير فيحرك التراب والأوساخ، والهدف في النهاية إخراجها من المقطورة. إزالة هذه الأتربة بدأت تزداد أهمية ذلك الوقت وكانت ربات المنازل يستخدمن أي طريقة لذلك، منها نثر الملح ودقيق الذرة بل حتى الملفوف المُقطّع على السجاد! ومن ثم يضربن السجادة والأثاث بعصا لإخراج الغبار.
لكن سيسل لم يقتنع لما رأى هذا العرض، وسأل المخترع: لماذا تنفخ الأتربة هكذا؟ لماذا لا تشفطها؟ فأجاب المخترع: لا، هذا ليس حلاً عملياً. صمت سيسل وأكمل مشاهدة المخترع يجرب أمام الناس وطاقم القطار وعاد لبيته، إلى أن تذكّر هذا تلك الليلة في المطعم، فاستخدم المنديل كمرشح (فلتر) لما شفط الهواء وأظهر تكوّم الأتربة في الكرسي.
عكف سيسل بعدها على صنع آلة تنظيف، وبعدها بعدة أشهر سجّل براءة اختراعه وأتى بجهاز جديد: مكنسة الشفط، التي نسميها اليوم مكنسة كهربائية. بدلاً من أن تنفخ التراب وتثير الغبار في كل مكان فعلت العكس: شفطت الأتربة. لكن كان الجهاز ضخماً آنذاك، لدرجة أنه احتاج أن يُحمل على عربة يجرها حصان. ظهر سيسل في الشارع وأخذ يجرب اختراعه أمام الناس، فنظّف المحلات في شوارع لندن، نظّف السجاد والستائر والتنجيدات، وأثار هذا إعجاب العالم، بما في ذلك رؤساء دول أخرى مثل ألمانيا وروسيا وفرنسا الذين طلبوا مثل هذا الجهاز، وكانوا يقدرون على هذا، أما أغلب الناس فلا، فكان الجهاز ضخماً ومكلفاً، ولم يقدر عليه إلا الأثرياء في لندن، ولأنه اختراع جديد ظريف فقد كانت الثريات يأمرن بتنظيف بيوتهن بهذا الجهاز ثم يُقمن حفلة شاي مع صديقاتهن من علية القوم للتفاخر به!
ظهرت قيمة الجهاز الفعلية في الحرب العالمية الأولى، فقد كانت حمى وبائية تعصف بالجنود المقيمين في مبنى أسكنهم فيه الجيش وتقتل الكثير منهم، فجيء بعدد كبير من تلك الأجهزة وشفطت من السجاد كماً هائلاً من الأتربة، قُدِّرَت أنها 26 طناً من التراب والأوساخ! وفي يوم وليلة اختفى الوباء. ولو أنه جهاز النفخ لربما نشر الوباء لكل المدينة وليس فقط المبنى.
نعم، كنتَ على حق يا سيسل!