د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لحظة كتابة هذا المقال تدور أحداث غريبة عجيبة في تركيا، حيث تناقلت الفضائيات على الهواء مباشرة أحداث انقلاب فاشل في إسطنبول. فقد أعلنت بعض قطاعات القوات الجوية والبرية فجأة سيطرتها على الأمور في تركيا وأنزلت قوات للسيطرة على أنقرة وإسطنبول، ثم أعلنت قطاعات أخرى في الجيش رفضها للانقلاب. وبدأ المشهد غريباً حقاً وكأنه نزال بين فريقين في حدث من الأحداث الرياضية التي يتابعها الناس على القنوات الرياضية مباشرة. الانقلابيون وصلوا! الجيش سيطر! وهلم جرا، حتى انقشعت الغيوم واتضح أن الانقلاب فشل نتيجة لامتناع جزء كبير من الجيش عن دعمه، ومعارضة جميع الأحزاب له، ونزول جماهير كبيرة للشوارع رافضة فرض الجيش للأمر الواقع.
أول حسابات الانقلابيين الخاطئة اعتقادهم بأن سيطرتهم على مبنى التلفزيون، والإذاعة الرسميين، كما تفعل الجيوش المنقلبة على سلطها عادة، سينهي المشهد ويجر بقية الشعب خلفه، وربما فاتهم أن الناس تستطيع التواصل عبر وسائط التواصل غير المحدودة المتاحة تقنياً هذه الأيام. فرغم أن الانقلابيين أغلقوا التواصل بالإنترنت إلا أنهم لم يستطيعوا السيطرة على الهواتف النقالة التي نقلت خطاباً للرئيس إردوقان للشعب مباشرة تطالبه بالنزول للشارع. ويستطيع المتابع رصد مؤيدي ورافضي الانقلاب من العرب وغيرهم مباشرة على وسائط الإعلام الاجتماعي.
ولتركيا تاريخ طويل ومرعب مع الانقلابات حيث شهدت ثلاثة انقلابات في عشرين عاما كان آخرها في عام 1980م على يد كنعان إفرين، واُتهمت أمريكا بتدبير الانقلاب بعد أن فقدت أمريكا حليفها الرئيس في إيران في عام 1979م، وكانت الحرب الباردة في أوجها. ويقال إنه اعتقل إثر الانقلاب أكثر من 600 ألف مواطن تركي، وأعدم 517 عسكرياً وسجن أضعافهم، وتلقت تركيا دعماً عسكريًا ومالياً ضخماً من أمريكا بعد الانقلاب، وتم ضمها للحلف الأطلسي. ولذا ربما سارع البعض باتهام أمريكا بأن لها يد في هذا الانقلاب أيضا. وهو أمر مستبعد لأن أمريكا عادة لا تراهن على عمليات بهذه الدرجة من سوء التخطيط.
تاريخ تركيا الحديث إلى حد قريب تاريخ عنيف، فقد فرض كمال أتاتورك، رئيس حزب تركيا الحديثة، العلمانية والحداثة على تركيا بالقوة الغاشمة. ودفع التحديث المتسارع والقوة المفرطة الشعور الديني إلى الحياة الخاصة بدل العامة، وخلق ذلك صراعاً بين أجيال تريد التمسك بالقومية والعلمانية وأخرى تريد التمسك بالتقاليد والدين. وظل العسكر القوميون مسيطرون على أمور البلاد، وبقيت هناك معارضة خفية استفادت من أخطائهم وفسادهم، ثم ضعفت قبضتهم مع انتهاء الحرب الباردة وتلاشي بريق المد القومي في العالم، وهذا ما سمح لحزب العدالة والتنمية، وهو حزب ذو ميول إسلامية غير معلنة، الوصول للسلطة في عام 2002م بعد أن أعلن حرصه على العلمانية وتصالحه معها. وطالب الشعب إثرها بمحاكمة جنرالات السلطة على جرائمهم، ولكن حزب العدالة لم يكن في وضع يسمح له بذلك.
وحدث تطور لافت في عام 2010م بسبب القبول الكبير للرئيس المعتدل عبدالله غول، وتحسن الأوضاع الاقتصادية وارتفاع صرف الليرة التركية، صوت فيه الشعب التركي، في ذكرى انقلاب 1980م، على تغييرات دستورية أساسية دعمت الديمقراطية وقلصت صلاحيات جنرالات الجيش. ولكن قبضة حزب العدالة والتنمية على الحكم اشتدت مع وصول أردوقان للحكم عام 2014م، واستطاع الحزب تنحية كثيراً من جنرالات الجيش، وأصبحت مهمته الأولى الداخلية هي الحفاظ على العلمانية ولو بالاسم فقط. وأتضح أن البلاد تتجه لليمين بشكل واضح، وأن الرئيس أردوقان الذي كان في السلطة أيضا لفترتين كرئيس وزراء يريد إحكام قبضته على البلاد. فانقسم الجيش وتعددت الولاءات. وظهرت اتهامات لإردوقان بالتسلط وحتى الفساد. وتراجعت شعبيته وشعبية حزبه إلى درجة كبيرة، خصوصا مع تراجع نمو الاقتصاد التركي وانخفاض الليرة نتيجة لمغادرة الأموال الساخنة لتركيا. وساهمت أحداث المنطقة في دول الجوار في زيادة حيرة الحكومة التركية في كيفية التعامل مع المنطقة، واتهمها خصومها في الخارج بالنزوع للتوسع أو على الأقل مد نفوذها في الجوار بنوع من النوستالجيا السياسية العثمانية. واتهمها زعماء المعارضة في الداخل بدعم حركات جهادية في المنطقة وفي جلب الإرهاب لتركيا ذاتها.
وبرز الإرهاب كدعاية سياسية قوية في الداخل، لا سيما وأن تركيا تعرضت لأحداث إرهابية كبرى، وتخبطت سياستها الخارجية في الآونة الأخيرة بشكل واضح خاصة تجاه روسيا، وهو أمر أزعج الأحزاب القومية إلى حد كبير وأزعج الجنرالات القوميين في الجيش أيضاً. وربما أغرى الهبوط الكبير لشعبية أردوقان وحزبه جزءاً من الجيش للقيام بانقلاب مستعجل سيئ التخطيط لأنه لم يأخذ في الحسبان قطاعات كبرى في الجيش فوجئت به ولم توافق عليه. كما أنه أساء تقدير شهية الشعب التركي في قبول عودة العسكر للسلطة بعد أن رضخ سنوات طويلة وقاسية جداً لحكمهم. وما زالت الأيام حبلى بالأحداث ربما غير المتوقعة التي قد تعيد رسم خارطة الحسابات التركية على أسس جديدة في هذا البلد الذي يتوسط منطقة في غاية التقلب والسخونة.