أحمد العتيقي
منذ خلق الله الإنسان وعلمه البيان ووضع العقل في ذاته، حيث ميّزه على سائر المخلوقات بهذا العقل الذي يشكل المركز الفكري واتخاذ القرارات والخطوات اللازمة والعزيمة ، فقد تدرج هذا الإنسان إلى الصعود نحو قمم العلم والمعرفة ولهذا ترى الأنبياء يكمل بعضهم رسالة بعض حسب التطور الفكري والعلمي للإنسان ومع الصعود دائماً نرى الصمود أمام التغيير الذي يشمل العقائد والثقافات حتى تعبت الرسل عند محاولتهم لهذا التغيير الفكري العقائدي.
ونتيجة لهذه المسيرة التكاملية العقلية للإنسان نرى دائما التحدي يلعب دور السيف ذي الشفرتين ، فتارة نرى التحدي يقف ضد التغيير نحو الأفضل والأكثر تطوراً وتارة نجد التحدي من قبل المصلحين يكمن بكل قواه أمام صمود العقول المتحجّرة التي لا ترغب أن تبرز معالمها في الأضواء خوفاً من الانتقاد لعدم قناعتها بنفسها وقدرتها لمقاومة العواصف التي تهب من أودية العلم والمنطق و الدليل الراسخ الذي يرغمها علي الإستسلام لضعفها و ضعف أسسها، أو تري نفسها سيدة العارفين و ما دونها من العقول متخلّفة و غير ناضجة و هنا يصعب دور المصلحين في هذا النوع من التحدي و لكنهم ما خضعوا للإستسلام و لليأس حتّي ضحّوا بالنفيس و الغالي أو ربما ضحوا بأنفسهم في سبيل التغيير و التحدي ضد الجهل وأتي بعدهم من يحمل هذه المهمة ليكمل المشوار و هكذا تطورت العقول وكذلك تطورت العقائد و الأديان موازية معها ، فهذا هو التحدي العقائدي.
أما التحدي الثقافي لربما يكون أحياناً أكثر تعقّداً وصعوبة، حيث لن يكون من السهل أن يستسلم للتغيير في الأسس الثقافية للمجتع ، حتّي لو أستطعت أن تغيّر عقائدهم.
لهذا عندما يمرّ الباحث في تاريخ صدر الإسلام فسوف يشاهد هذه الظاهرة عند البعض من أصحاب النّبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم من ظلَّ متمسكاً بثقافته وعاداته مع إنها كانت في أغلب الأحيان تتنافي مع التعاليم الإسلامية الاجتماعية .
وإن ابتعدنا قليلاً من الأنانية و حررنا أنفسنا من حب الذات سنتفاجئ بهذه الظواهر السلبية بعد أكثر من 1400 سنة بأنها لم تزل مترسّخة في داخلنا و نشاهدها في أعمالنا إن لم تعترف بها في ألسنتنا.
كيف يمكن للتحدي الحضاري أن ينتصر ومتى سيهزم؟
عندما يواجه التحدي تلك الثقافة التي يكمن في بقائها متمسكة بتوازن و عقيدة ذاتية محاولة أن تلبّي الإرادة على الثبات أو التغيير في سباق الحضارات متناسية بعض القيم التي عليها أن تتخلّي عنها ظنّاً منها بأن هذا هو السبيل الوحيد للارتقاء لقلل التطور والازدهار، بالطبع سيحل في ساحتها الفشل وستخسر كلتا المشيتين!
كما حاولت بعض الحركات والزعامات في تاريخ تركيا ، فبعدما كانت تمثل الأمبراطورية الإسلامية العظمى التي امتدت من المغرب العربي حتّى بلاد الرافدين، ولكن بين ليلة وضحاها وجدت نفسها مرميّة في مزبلة التهميش بين فكر يدعي التحرر من قيود الدين متمثّلة بظهور تيارات فتيّة تطالب اللحوق بالجامعة الأروبية ، وبين من يؤمن بضرورة البقاء علي الموروث الإسلامي عقيدة وإيماناً منه أو طمعاً لاستمرارية هذه الأمبراطورية التي غرست مخالبها في قلب الأمة العربية بالبطش و الأستبداد و بالنتيجة لما حصل من صراع بين هاتين الفكرين ، أنّها تخلّت عن كل تراثها وأغلب حضارتها ومجدها وعظمة سلطانها الذي كان يوماً صاحب القرار في معظم الشرق و كل المغرب العربي .
ولكنها هل نجحت للالتحاق بالجامعة الأروبية ومدينة إفلاطون الفاضلة؟
بالتأكيد أنها لن تفلح بما أرادت، إنما أضاعت نفسها بين كلتا الفكرتين ولا تدري علي أي وتر تعزف حتّى تجد من يتراقص مع نغمات أفكارها.
فانتصار التحدي لن يتم إلا أن يكون مشروطاً بفكرٍ متحرر من عبودية الأنانية مع وجود أهل الثقافة في القيم والمبادئ العرفية والأصولية التي تمتد جذورها في ماضٍ عريقٍ ومشرّف ذو بنية تحتيّة مستحكمة ومشيّدة بدراسة تمت محاسبتها لأسس علمية باحتراس شديد حتّى يتم تشكيل البنى العميقة للثقافة والعرف الاجتماعية التي تشكّل صرح هذا المجتمع وتتماشى مع التطور الفكري من دون أن تخسر هذه الكفاءات والقيم.
فأين نحن من هذا التحدي؟
هل نحظى بمدينة إفلاطون الفاضلة في الابتعاد عن الظواهر السلبيّة واللجوء إلى كل المحاسن والإيجابيات التي يتمتّع بها تراثنا غنيّاً بها غير مفتقر، أم نرضخ تحت وطأة الأعراف والموروثات القبلية وابتعادنا من العلوم العصريّة وعدم مسايرتنا لها نتيجة تخلفنا الفكري وعدم نضوجه؟
هنا يأتي دور المصلح، ولا أقصد من المصلح أن ينزّل الله علينا رسالة سماوية أخرى مع ظهور نبيّ مرسل جديد!
لأنّ عهد الأنبياء قد ختم برسالة المصطفى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، و لكنّ دور الأنبياء لن يتوقف أو يختتم في كل العصور، لأنّ كلّ مرشدٍ مصلح في اجتماعه فهو يؤدي دور الأنبياء.
فبإمكانك أن تكون مصلحاً بمسعاك وجهدك نحو التغيير إلى الأفضل وأن تكون مبشراً ونذيراً لشعبك، مبشّراً بمستقبلٍ زاهر شرط أن ينزعوا ثوب الأنانية وأن يتحلّوا بحلية العقل والعلم.
ونذيراً من السقوط إلى هاوية الجهل والفشل مع سحقهم تحت وطأة الاستعباد والاحتقار من قبل بقية الشعوب التي زرعت فيهم بذور التفرقة نتيجة لتخاذلهم لبعضهم وعبادة الأنانية بتشبثهم بجهلهم وتشتّت رأيهم وعدم الوحدة وهذا ما يجب أن نحذر بعضنا منه لأنّه أذاقنا الذل والهوان عبر العصور الماضية ولم نتعظ منه.
فكن أنت المصلح لشعبك .