د.محمد بن عبدالرحمن البشر
امتداداً لما ضمنت كتابته عن رحلة ابن جبير، من غرناطة إلى المشرق، وبعد أن ترك الاسكندرية بعد وصوله إليها ووصفه لما بها اتجه إلى القاهرة، حيث أقام أياماً زار مساجدها، ومدارسها، وكان السلطان في ذلك الوقت صلاح الدين الأيوبي، ومن شدة أعجابه بصلاح الدين الأيوبي، فهو لا يترك وقفة من وقفاته إلاّ ويذكر فيها محاسن صلاح الدين فقال في إحدى عباراته واصفاً إياه: «أنه لا يؤتي الراحة، ولا يخلد إلى دعة، ولا يزال سرجه مجلسه، والحلم من سجاياه، وقد صفح عن جريرة أحد الجناة عليه، وقد كان يقول: لأن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أصيب في العقوبة، وقال: والله لو وهبتُ الدنيا للقاصد الآمل لما كنت أستكثرها عليه، ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي، لما كان عوضاً مما آرفه من حر ماء وجهه». وأردف قائلاً: ولقد اشتكى أحد مماليكه المقربين لديه، من جمال مدعياً أنه قد باعه جملاً معيباً، فكان رد السلطان صلاح الدين: ما عساي أن أفعل لك وللمسلمين قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للعامة والخاصة، وإنما أنا عبدالله أنفذ الشرع والحق يقضي لك أو عليك».
وكان صلاح الدين قد أبدل الدعاء للفاطميين من منابر القاهرة بالدعوة لبني العباس، وذلك منذ عام 567هجرية الموافق1171ميلادية، وقد وصف دخول الخطيب إلى المسجد لإمامة المصلين يوم الجمعة، لابساً السواد على رسم العباسيين، ولباسه أسود وعليه صولجان وعمامة سوداء، متقلداً سيفاً، وعند صعوده المسجد يضرب بنعله السيف، أول درجة عند صعوده المنبر، فيسمعه الحاضرين، وكأنه إيذان بالإنصات، وفعل مثل ذلك في الدرجة الثانية الثالثة، ثم يسلم على الحاضرين يميناً وشمالاً، ويقف بين رايتين سوداوين يمسكها رجلان من قوامة المؤذنين، وأمامه آخر، وفي يده عصا، قد صممت لتعطي صوتاً مجلجلاً عند دخوله، وكأنه إيذان بدخول الخطيب. وهذه العصا تسمى»الفرقعة».
وقد ذكر أن بهاء الدين قرقوش كان القائم عليها، ولن نتحدث عن هذا الرجل كثيراً فقد قيل فيه ما قيل حتى أن فعله قد صار مثلاً فيقال «حكم قرقوش» والله أعلم بصحة ما قيل فيه من محاسن أو مثالب، ولكن من المؤكد أن بناء القلعة والسور، قد تم بأيدي أسرى الأفرنجة الذين سخرهم قرقوش لتلك المنشآت، وكان ذلك سبباً من وصفه بما وصف به، رغم أن فعلا كهذا فيه كرامة بدل القيد والبقاء في المسجد دون عمل أو تمتع بالحياة المرتبطة بالإنتاج.
وفي رحلته لجنوب مصر لاحظ ابن جبير أن الولاة هناك يأخذون من المسافرين زكاة كما هي الحال في الأسكندرية، وقد وصف ابن جبير تلك المطالب المتكررة بأنها سرقة مقنعة.
ولعلنا ننتقل إلى وصوله عن طريق الصحراء إلى مدينة عاذيبة، وهي في الطريق المشهور لتجارة الفلفل والبهار، وتعتبر هذه التجارة وهذا الممر الدولي الذي يربط الصين والهند بأوروبا مروراً بالمنطقة العربية مصدراً أساسياً لتجارة الدولة الأيوبية والمملوكية، وهذا هو الطريق، وهذه هي البقعة التي بنت على أساسها بريطانيا العظمى عظمتها من خلال تجارة الشاي والتوابل في القرن الثامن عشر، ولقد وصف تلك التجارة، وذكر أنه قد حاول إحصاء القوافل التي تمر من ذلك الطريق فعجز عن ذلك، ولاسيما تلك القادمة من الهند عبر اليمن والجزيرة العربية وعاذيبة، وقد بالغ في وصف الأحمال حتى قال: إن كثرتها توازي التراب.
وقد ذكر ابن جبير الأمن الذي شاهده هناك فقال: «ومن عجيب ما شاهدناه في هذه الصحراء أنك نلتقي بقارعة الطريق بأحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها، وتترك في هذا السبيل إما لإعياء الإبل الحاملة لها أو غير ذلك من الأسباب، وتبقى بموضعها إلى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات، مع كثرة المارة عليها من أطوار الناس».
هذا الوصف الرائع من ابن جبير لا بد من السائد في تلك الفترة في ذلك الموقع يدل دلالة واضحة أن رواج التجارة في أي زمان ومكان إنما يتم بسيادة الأمن وبسطه في البلاد، وهذا العامل من أهم العوامل وأكثرها فاعلية في الوقت الحاضر، إضافة إلى أنه ركيزة من ركائز جلب الاستثمار والتوسع فيه، ولهذا فنحن في المملكة العربية السعودية ودول الخليج عامة ننعم بالأمن الذي جعل هذه الدول فريدة في وضعها مقارنة بما يحيط بها من أوضاع محزنة ومؤلمة.
أسبغ الله على هذه البلاد وشقيقاتها من دول الخليج نعمة الأمن والأمان، وأعاد الأمن لجميع البلاد المجاورة وغير المجاورة لينعم الناس بالخير والسلام.