فواز السيحاني
تقف على منبرك الخشبي، تُخرج الكلمات الثمينة من فمك، تفعل ذلك؛ لتنقذ كل الأرواح الضائعة بكامل إخلاصك الجميل، والآخرين ينفقون أوقاتهم في قراءة الكتب التي كانوا يقرأونها منذ أن كانوا صغاراً، يجلسون على مقاعدهم الفخمة ومن حولهم رائحة البخور، يَغرقون في تأملاتهم التي لم تأتِ بما يجعلنا نصاب بالدهشة، بالإدراك الذي لا يتسم بالتكرار والسذاجة. أنت تحديداً خرجت من آخر الخراب لتقول بأنّ ما كنا نسمعه ليس هو الشيء الوحيد، ليس هو الحقيقة المطلقة. أخبرتنا عن الأشياء التي كانوا يكتمونها عنا، وفي نفس الوقت كنت مختلفاً عن الجميع، مختلفاً لأن الفرق بينك وبينهم أنك تقرأ، تقرأ لكافكا، لهرمان هسة، لساراماغو، لهمنغواي، لفرويد، لكارل يونج، للعروي، لإيريك فروم، للمسيري... لآخرين لا يمكن حصرهم. وهم يقرأون للجاحظ وتحديداً أكثر كتاب الحيوان.
أنا أحبك معهم لذات الأسباب التي أحبوك لأجلها، لقد كنتُ في القِدم هائمًا في مدن الوحدة حتى وجدتك، كنت منقذًا حقيقياً لكافة الأسئلة التي لم أجد إجاباتها، كنتَ مثل الطائر الذي يأتي من السماء ليلتقط شيئاً لا نراه.
أعرف جيدًا بأنّ البعض يكرهك لأنك أوردت بعضاً من الكرامات في أحد مقاطعك الصوتية، في حين أنهم يصدقون كرامات بعض شيوخهم المصابين بمرض الذهان والهلاوس البصرية، هل تصدق أنهم يروّجون وبكامل صدقهم حكايةً لأحد الأطباء المحليين، تلك الحكاية تقول بأنّ العفريت التايلندي الذي بداخل مريضه أسلم على يديه وهو في غرفة العمليات، مما يجعلني أتساءل ألم يتأثر هذا العفريت بالبنج وبالحقن الوريدية التي أعطاها هذا الطبيب إليه؟. هل تعرف أنهم يصدقون أيضاً الحكاية التي تقول بأنّ أحد العفاريت كان حاضراً في إحدى المحاضرات في هيئة رَجُلٍ من قارة أفريقيا، وفي وسط الدرس أصبحت ساقه طويلة جداً وتجاوزت الحواجز وأجساد الآخرين!!!.
لستُ حزيناً على غضبهم الذي يروّجون له في كل مكان، فلم تكن وحدك من يواجه هذه القذائف عبر عمر التاريخ، لقد حدث مع من سبقوك، مع ابن سينا، ابن رشد، الفارابي، وقريبًا جداً مع العلاّمة الألباني حين ألّف كتاب «جلباب المرأة المسلمة» لقد قالوا عنه أبشع الألفاظ وأكثرها قسوة وتحديداً أكثر في الصفحة الخمسين. ورغم هذه القذائف نحن نحتاجك لأنهم أخبرونا بأنّ الحب والتسامح يعني أنّ الجحيم يفتح أبوابه لنا ويقتطع التذاكر التي تتكفل بوصولنا سريعاً هناك، وبأنّ الإنسان حالة من التربص والخوف، يفعلون ذلك لأنهم يكرهون الأسئلة، يكرهون لماذا وعلامات الاستفهام الأخرى، إنهم يشبهون القصة التي قرأتها يوماً للأديب الجميل غاليانو والتي تقول:
«في وسط ساحة ثكنة عسكرية مقعد صغير يحرسه جندي، لم يعرف أحد لماذا كان ينبغي أن يحرس المقعد. كان المقعد يُحرس على مدار الساعة، ومن ضابط إلى آخر كان الأمر يصدر والجنود ينفذونه. لم يعبّر أحد عن أية شكوك أو يسأل لماذا. وهكذا استمر الأمر إلى أن أراد جنرال أو كولونيل، أن يعرف سبب الأمر الأصلي. كان عليه أن يقلب في الملفات. وبعد وقت طويل من البحث عثر على الجواب: منذ واحد وثلاثين عاماً وشهرين وأربعة أيام، أمر ضابط حارساً أن يقف قرب المقعد الذي كان قد دهن لتوه، لكي لا يفكر أحد بالجلوس على الدهان الطري!»