الطريف في الأمر أن الفروق اللاهوتية بين الكاثوليك والأرثوذكس لم تنشأ من البداية، إنما نشأت عبر الزمن وبلغت حالياً - حسب المصدر ذاته - 25 فرقا، أي انها قابلة للزيادة مستقبلاً!
لن أتناول الفروق كلها ولكن أهمها وهي:
1-الكاثوليك لا يتجهون للشرق في الصلاة (أي أنهم ألغوا القبلة)
2-البابا الكاثوليكي هو خليفة المسيح على الأرض ...وهو معصوم عندما يجلس على الكرسي الرسولي (أليست هذه ولاية فقيه؟)
3-الأرثوذكس يعتبرون منح البابا الكاثوليكي حق غفران الذنوب لا يجوز فهو يساوي نفسه بالذات الإلهية، وليس له الحق باحتكار تفسير النص الإنجيلي او تطليق زوجات من يختلفون معه بالرأي. (عبادة النص)
4-صدرت في عام 1965 تبرئة لليهود من دم المسيح بواسطة بابا الفاتيكان لا يعترف الارثوذكس بها حتى الآن. (الصهيونية المسيحية!)
الاختلاف الأكبر للأرثوذكس عن الكاثوليك هو أنهم يعتبرون المسيح مخلوقاً، وأن الله واحد ولكنه منح المسيح عليه السلام قدرات إلهية (نفس المصدر السابق).
هذا الاختلاف يمس جوهر المسيحية كديانة ويحتاج الى بحوث متخصصة، ولكن ما يهمني هنا هو أن هذا الاختلاف يمنح الحق الالهي للكاثوليك بان يخوضوا حروباً صليبية ليهيمنوا ليس على الشرق وحسب، إنما على العالم كله. كما أن الاختلافات المذكورة كلها تشير الى إضفاء طابع القدسية على البابا من أجل تعزيز سلطته على العامّة من الناس لاستخدامهم في أغراض دنيوية وليس لخدمتهم، وهو ما يفسر أيضاً انفصال الكنيستين الاوروبيتين (القسطنطينية واليونانية) لاحقاً.
الانقسام الكبير الثاني حدث في القرن السادس عشر وفي الكنيسة الكاثوليكية بالذات إبّان (النهوض الجماهيري) في عصر النهضة، حيث بدأت القيصرية التي أسست الكاثوليكية بالانهيار، وبدأ الوليد الجديد الذي اسمه الرأسمال يبسط سلطانه تدريجياً ويفرض شروطه بمأسسة السلطة بما في ذلك السلطة الدينية، فقد (نهض) القس مارتن لوثر من داخل الكنيسة الكاثوليكية وقام بحركة اصلاحية سميت بروتستانتية أي (احتجاجية) ضد القدرية الكنسية التي رفع لواءها البابا الكاثوليكي.
البروتستانتية إذن نشأت في كنيسة السلاطين نفسها التي استخدمها القياصرة لقمع وإلجام الليبرالية الثورية من جهة، ومنح الغرب الحق المقدس بالهيمنة على الشرق من جهة اخرى.
(أبرز مقومات الفكر البروتستانتي اللاهوتي... الحصول على الغفران... من خلال الإيمان... وثانياً رفض «السلطة التعليمية» للكنيسة الكاثوليكية التي تنيط بالبابا القول الفصل فيما يتعلق بتفسير الكتاب المقدس معتبرا أن لكل امرئ الحق في التفسير، وثالثاً أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للمعرفة فيما يخص الإيمان فقط...) (انظر البروتستانتية - الموسوعة الحرة).
لو استكمل الرأسمال العلمانية المرادفة للبروتستانتية التي نادى بها مارتن لوثر لاجتاحت البروتستانتية الشعوب المسيحية كافة، ولكنه أخذ السلطة التعليمية تحت إدارته وأبقى السلطة الكهنوتية عصاً مسلطة على رقاب النهضويين، فالكاثوليكية (القدرية في واقعها) هي الفئة المسيحية الأكبر حتى الآن.
ما معنى رفض «السلطة التعليمية» للكنيسة؟
واقع ذلك العصر يشير الى أن (عملية المعرفة) بشكل عام كانت مكبّلة بقيود صارمة تضعها الكنيسة على شكل حرام وحلال وكفر وإيمان وهرطقة وموالاة وزندقة والتزام...الخ، كل هذه النعوت كانت تستخدم كسلطة بيد البابا والمتنفذين في الكنيسة، وهي مسلطة على فئة الانتلجنسيا بالدرجة الأولى، التي تشمل المتعلمين من جميع الفئات.
كانت أهم سلطة لدى الكنيسة هي «السلطة التعليمية» وهي لا تقتصر على التعليم وحسب، إنما تشمل التعليم والإعلام والتجريب والاختراع والاكتشاف والفن والموسيقى وكل ما يتعلق بـ(عملية المعرفة)، وهي بهذا المعنى بالغة الخطورة، من حيث أنها الوعاء للحراك الاجتماعي برمته سلبياً كان أم ايجابيا.
بعد هيمنة سلطة الدولة الرأسمالية على العملية المعرفية، تحول التعليم في المدارس والجامعات تحت هيمنتها، وانبثقت سلطة جديدة اسمها (إعلام)، ثم فتحت الرأسمالية أبواب العلوم التطبيقية التي تدر الأرباح على مصاريعها، ولكنها بدأت مباشرة بالتضييق على العلوم الانسانية التى تثبت أن الرأسمالية الى زوال.
هذه الازدواجية في ممارسة السلطة المعرفية جعلت الرأسمالية تتوقف عن استكمال العلمانية حتى النهاية، وخاصة بعد (النهضة) الفكرية في اوروبا وتنامي الحركة الثورية، لذلك بسطت هيمنتها المخابراتية على المناهج التعليمية والوسائل الإعلامية.
وبالرغم من استخدام الرأسمال للعنف الفكري، إلا أن المد الثوري في الفكر والأدب والفن استمر بالتنامي وأنتج الوعاء المعرفي لكمونة باريس منتصف القرن التاسع عشر والاتحاد السوفيتي بداية العشرين، مما جعل الرأسمال يتحالف مع الكنيسة الكاثوليكية ويكوّن دولة (مستقلة) اسمها الفاتيكان.
(ورغم الوجود التاريخي للفاتيكان، فإن هذا الوجود لم يصبح بالشكل المستقل...قبل 7 يونيو سنة 1929 حين تم توقيع ثلاث معاهدات في قصر لاتران بين الحكومة الايطالية التي كانت آنذاك فاشية بقيادة بينيتو موسوليني وممثل البابا بيوس الحادي عشر...نظمت العلاقة بين الفاتيكان والدولة...ونصت على أن يكون الفاتيكان بحدوده الحالية جزءا مستقلا عن الدولة الايطالية ومدار من قبل البابا.
أيضاً فقد نصت على ادارة الفاتيكان بشكل مباشر لكافة الكنائس والأديرة في مدينة روما... وثلاثة وعشرين موقعا آخر خارج أسوار الفاتيكان... وضمت الاتفاقيات أيضاً مبلغاً سنوياً من المال... تعويضاً عن الخسائر التي مني بها الكرسي الرسولي إثر قضاء مملكة ايطاليا على الولايات ألبابوية) (الفاتيكان - الموسوعة الحرة).
إذا كانت الفاشية هي أسوأ أنواع العنف الديكتاتوري الرأسمالي في ذلك الوقت، وقد تأسست على يد موسوليني وعصابته في ايطاليا، ثم انتشرت في أوروبا كوسيلة لمواجهة المد الثوري، وأرادت احتلال اوروبا والعالم تحت شعارات قومية، إذن لماذا تسمح لنشوء (كيان) مهما كان صغيراً وسط روما؟ ثم تخصيص ميزانية سنوية له وإعطائه صفة دولة؟
يقول مأمون فندي في (جريدة الشرق الأوسط العدد 12529 في 18 مارس 2013 ) (وبمجرد الحديث عن علاقة البابا بموضوع القوة الصلبة... يتداعى الى الذهن ما قاله جوزيف ستالين عندما قيل له إن بابا الفاتيكان اتهمه باضطهاد الكاثوليك. رد جوزيف ستالين بغطرسة القوة الخشنة: وكم فيلقا يملك البابا؟)
وفي موقع آخر أن تشرشل هو الذي قال لستالين ذلك فأجابه كم دبابة يملك البابا؟
هذا الحدث كان عام 1945 أي بعد 16 سنة من تأسيس الفاتيكان وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، والتي فشلت فيها الرأسمالية في القضاء على الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن لو عدنا بالسؤال والجواب الى عام 1929، عندما وقّع موسوليني اتفاقيات تأسيس وتمويل الفاتيكان وهو (اشتراكي) سابق ومؤسس الدكتاتورية الفاشية، لماذا لم يهتم ما اذا كان الفاتيكان يمتلك قوّة ام لا؟
التفسير الوحيد لهذا الحدث الكنسي الأكبر بعد فصل سلطة الكنيسة عن السلطة السياسية في عصر النهضة، هو أن الرأسمالية التي وظفت مخابراتها لإلجام العملية المعرفية لم تعد قادرة على ايقافها إلا بالتحالف مع الكنيسة، وتوظيف (الحلال والحرام) لقمع الحركة الثورية فكرياً وميدانياً. ولذلك لا بد من إعطاء الكنيسة الكاثوليكية وليس سواها صفة دولة من جهة، وإبقائها تحت الهيمنة المافيوية الرأسمالية جغرافياً ومالياً من جهة أخرى.
الفاتيكان تكوّن بعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 بـ12 عاماً، أي بعد النهوض الاقتصادي الهائل الذي حققه الاتحاد السوفيتي خلال تلك الفترة القصيرة، والذي أصبح منافساً للاقتصاد الرأسمالي. ولذلك لا بد من استثارة المشاعر الدينية لدى الجماهير الشعبية لمحاصرة المد المعرفي من جهة، واستخدام تلك الجماهير حطباً للحرب المقبلة من جهة اخرى.
التحالف المقدس بين الفاشية والفاتيكان لم يستطع ادخال الفيل في خرم إبرة، أي لم يستطع التغلب على المد الثوري أو ايقاف التطور وانهارت الفاشية، ولكن الفاتيكان لم ينهر واستمر بمهمة الحلال والحرام بعد الحرب الثانية، بل تنامى دوره لاحقاً.
- د. عادل العلي