عبدالله بن محمد السعوي
إن المبالغة في إنزال الظني منزلة القطعي وتكريس البعد الأحادي، وجعله يتصدر محتوى الواجهة الثقافية لا يقلل من فرص النهوض بالعطاء الفقهي ولا يقلل من وهجه فحسب بل وقد يقود بشكل ظاهر أو خفي إلى اهتزاز عنيف في القناعات الدينية، ومن ثم اختلال مساراتها وعلى نحو يجعلنا أمام حالة من حالات التمرد العقدي والسلوكي، وخصوصا إبان الاحتكاك مع الثقافات والسياقات الفكرية المغايرة والمضادة.
إذ حينما يحتك شاب عديم المعرفة أو حتى حينما يحتك شخص مثقف لكنه محدود - أو معدوم - المعرفة في علوم التشريع كما هو الحاصل مع كثير ممن يتقحمون في كل جدل ويخوضون في كل قضية، مع أنهم لا يتوافرون في هذا المجال على الرصانة والعمق والتؤدة البحثية حينما يتماس مثل هذا مع أوساط ثقافية مضادة، أو حتى حينما يفتح قنوات التواصل مع بيئات مماثلة لكن يرتفع فيها سقف التسامح الفقهي فلا شك أن لهذا أثره الفاعل والمؤثر، وكثيرا ما يكون هذا التأثير باتجاه السلب، حيث كثيرا ما تتشكل ردود أفعال عاطفية مضادة تنفر من المنظومة الثقافية برمتها وتكون ضحية لهذا الانفتاح المفاجئ، ولا غرو فالانفتاح التام بطبيعته حينما يأتي وعلى حين غرة وبدون سابق تهيئة كثيرا ما يشكل تربة مثالية لترعرع الاضطرابات الفكرية!
ولذا فلا مناص في ظل اتساع الفضاء وتشعب هذا المد الثقافي والسياسي العولمي الجارف لا مناص من إذابة الكتل الخرسانية الصلبة وتجاوز السكون الفقهي، وذلك عبر تشكيل منظومة فقهية تحفل بالتنوع وتحتفي بصوره وتتعاطى بروح مسترخية مع الاختيارات المغايرة وترحب بالاستدراك والنقد والمراجعة أكثر من احتفالها بالمباركة والتزكية والإطراء، ولاشك أن تنمية مثل هذا التوجه والدفع بهذا الاتجاه أمر من شأنه تنويع زوايا النظر والتوسيع على المجتمع بمختلف تكويناته، هذا فضلا عن استثارة المحرك البحثي لدى البنى الشغوفة بالمعرفة وبشكل يقلل تدريجيا من سلطة الرأي الحدّي في المسائل الظنية.