د. محمد عبدالله العوين
في 12 سبتمبر 1980م قام الجنرال كنعان إيفرين مع ثلة من ضباط الجيش بثالث انقلاب عسكري في تاريخ تركيا ؛ وحينها أبلغ ضابط في الاستخبارات الأمريكية الرئيس جيمي كارتر الذي كان يحضر حفلا موسيقيا بقوله «لقد فعلها غلماننا»! واعترف حينها مدير مكتب CIA في أنقرة بول هنزي بأن الوكالة دبرت الانقلاب.
أيدت الولايات المتحدة انقلاب الدكتاتور كنعان إيفرين بعد أن رأت بداية تصاعد مد إسلامي في تركيا قد يقود إلى أن تعود تركيا من جديد إلى أصولها الإسلامية القديمة قبل انقلاب كمال أتاتورك على الخلافة العثمانية في 29 أكتوبر 1923م وتغيير هوية تركيا وقطع صلاتها بالعالم العربي والإسلامي واستبدال اللغة العثمانية واللغة العربية بالأحرف اللاتينية وتغيير الدستور إلى دولة علمانية ، وخلال ما يقرب من نصف قرن قبل انقلاب إيفرين تمت صياغة مجتمع تركي جديد تشرب مبادئ أتاتورك كما كانت الحالة تقريبا بالمجتمعات الإسلامية في شرق أوروبا التي ضمتها الثورة البلشفية الشيوعية قسرا وسعت إلى إعادة صياغتها وتغيير انتمائها العقدي والثقافي واللغوي؛ وكما فشل البلاشفة في دول الاتحاد السوفيتي المنحل ذات الجذور الإسلامية فشل الكماليون المتشدوود من الجنرالات وغيرهم في تغيير هوية الشعب التركي ، وحين ازدادت المخاوف الأمريكية من بروز أصوات قوية التأثير تطالب بالعودة إلى الجذور هيأت لانقلاب عسكري آخر يعيد الحياة إلى المبادئ والقيم الكمالية - كما صرح الجنرال كنعان إيفرين بذلك - وهو ما حدث خلال تسع سنوات دموية برعاية أمريكية كاملة ؛ ومن أجل إعادة إحياء المبادئ الكمالية وخلال تلك الحقبة المظلمة من تاريخ تركيا تم اعتقال 650 ألف شخص ومحاكمة 230 ألفا نفذ حكم الإعدام في 517 منهم وانتحر 43 وفر 30 ألفا إلى المنفى وتوفي 300 شخص تحت التعذيب ، وتمت إعادة صياغة الدستور فوضعت المادة رقم 15 التي تحمي الانقلابيين من المحاكمة ، وهو ما حماهم بالفعل إلى أن تولى سليمان ديميريل 1993- 2000م الذي أبطل المادة 15 وجرت المحاكمة في عام 2014م ولكن لم يبق على قيد الحياة من زمرة الانقلاب الفاشي بعد مرور أربعة وثلاثين عاما إلا اثنان فقط هما كنعان إيفرين وقائد القوات الجوية تحسين شاهين كايا اللذين حكم عليهما بالسجن المؤبد.
وقد أعقب تلك الفترة الكالحة التي رعتها المخابرات الأمريكية فترة مريحة في عهدي تورجوت أوزال و سليمان ديميريل بدأت معها مظاهر التطلع إلى الجذور الإسلامية واضحة؛ وبخاصة في النشاط السياسي القوي الذي كان يمارسه نجم أربكان من خلال كل حزب يشكله ثم يحله العسكر؛ بدءا من حزب النظام الوطني الذي كان أول حزب ينادي بعودة المجتمع التركي إلى شيء غير قليل من قيمه الإسلامية دون التخلي عن المبادئ الكمالية ؛ ربما خوفا من حله سريعا من قبل الجيش ، وهو ما حدث فلم يعمر أكثر من تسعة أشهر كون بعده حزب السلامة الوطني ثم حل وسجن ثلاث سنوات ، وبعد خروجه أسس حزب الرفاه عام 1983م في عهد تورجوت أوزال، ومن خلاله استطاع الوصول إلى رئاسة الحكومة 2016م فبدأ بإجراء تغيير كبير في المجتمع التركي من خلال تشجيع التعليم الديني والتحلل من التأثيرات الغربية على الحياة العامة للمجتمع التركي؛ وهو ما دعا الجنرالات المتشبعين بالفكر الكمالي إلى القيام بالانقلاب الرابع في تاريخ تركيا بدعم أمريكي وغربي أيضا، وهو ما سمي بانقلاب «المذكرة» أو «الثورة البيضاء» التي تطالب رئيس الجمهوية بإعادة تركيا إلى المبادئ التي أسسها كمال أتاتورك وإلا قام الجيش بانقلاب كامل والاستيلاء على السلطة ، وخوفا من عودة دكتاتورية العسكر من جديد تم الحد من الأنشطة الدينية المختلفة وإغلاق عدد كبير من مدارس تحفيظ القرآن ومدارس تخريج الأئمة وحظر ارتداء الحجاب في الجامعات وإغلاق المدارس الصوفية، وإرغام نجم الدين أربكان على الاستقالة بعد مرور سنة وبضعة أشهر وحل حزب الرفاه ومنعه من ممارسة نشاطه السياسي.
توقف أربكان عن ممارسة العمل السياسي ؛ لكن تلاميذه البارين المتشبعين بمنهجه وبأفكاره لم يتوقفوا ، ومنهم عبد الله غول ورجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو الذين أسسوا 2001م حزبا بديلا عن أحزاب أربكان المنحلة: الرفاه والفضيلة والسعادة ؛ هو «حزب العدالة والتنمية» ووضعوا له رؤية واسعة تحول دون الصدام مع الجيش..
لم يقم أتاتورك وحده بالانقلاب على الدولة العثمانية 1923م، ولم يقم كنعان إيفرين بانقلابه الدموي1980م وحده ، ولم يقم الجيش كذلك بانقلاب «المذكرة» 1917م وحده ؛ فهل قام الجيش أيضا بدون دعم استخباراتي خارجي بانقلاب يوم الجمعة 15 جولاي 2016م على الرئيس رجب طيب أردوغان؟! .. يتبع