د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
العبارة التي يردّدها الجميع، وهي أن الجامعات والمعاهد تخرِّج أعداداً كبيرة، ولكنهم غير مؤهلين لسوق العمل ليست مجرد مشجب نعلِّق علية سبباً للبطالة، أو على الأصح سبباً للفشل في توظيف الخريجين. إنها قضية هامّة وضعت (رؤية 2030 المستقبلية) الأساس لمعالجتها ضمن محور تحقيق الاقتصاد المزدهر من خلال (بناء منظومة تعليمية مرتبطة باحتياجات سوق العمل). ذلك أن هناك بالفعل ما يشبه الخندق العميق الذي يفصل بين ما اكتسبه الطالب في دراسته بالجامعة أو المعهد وبين مكان العمل. من الذي حفر الخندق: الجامعة والمعهد أم سوق العمل؟ لا هذا ولا ذاك. فالجامعة والمعهد لا يستطيع أيّ منهما أن يقدّم أكثر من تدريس المواد وإيصال المعلومات المطلوبة في مجال التخصّص إلى الطالب بطريقة تعتمد على جودة طرق التدريس وتأهيل المدرّسين ومحتويات المنهج النظرية والعملية. وغنيّ عن الذكر أن نطاق المواد التي تُدرّس أشمل وأوسع من نطاق العمل المحدّد الذي سيمارسه الخريج فيما بعد. لذلك يكون الطالب المتخرج مهيّأً ذهنياً وعلمياً للانتقال إلى مستوًى آخر دون أن يُهيّأَ لتطبيق ما درسه، لأن التطبيق إنما يكون في بيئة قريبة من بيئة العمل الذي يمارسه مستقبلاً، وهذا ما لا تقدر المؤسسة التعليمية على توفيره في مرافقها. أما من ناحية سوق العمل فإنه - لأسباب مالية أو عملية - لا يحتاج لموظف غير مُلمٍّ بمهارات العمل، إذ أن الذين يتمّ توظيفهم يعيّنون على وظائف شاغرة تتطلّب حاجة العمل شغلها. عندما كان العمل الحكومي يستوعب أكثر الخريجين لم يكن تأهيلهم لسوق العمل محلّ اهتمام كبير. فالخبرة - إلى جانب التأهيل العلمي - كانت تُطلب من غير السعوديين. ثُمّ تشبّعت الإدارة الحكومية، وتضاعفت أعداد الخريجين، وصارت مشكلة البطالة تضغط على الدولة لتوظيفهم، ولم يكن هناك متسعٌ لهؤلاء إلّا في سوق العمل غير الحكومي الذي لا يعطي لشهادة النجاح التي يحملها طالب الوظيفة قيمة كبيرة بدون الخبرة.
فما الذي يمكن عمله لردم الخندق الذي يفصل بين التعليم والتوظيف، ومن ثَمّ يلبّي متطلّبات سوق العمل غير التعاون بين المؤسسات التعليمية وجهات العمل في القطاع العام والقطاع الخاص في مجال التدريب الذي يؤهل لسوق العمل؟ هذا هو الخيار المتاح أخذه في الوقت الراهن كوسيلة جاهزة لتلبية احتياجات سوق العمل إلى أن يتمّ بناء منظومة تعليمية وفق رؤية 2030 المستقبلية.
بعض المؤسسات ذات الإمكانيات المالية الجيدة -كالبنوك والشركات الكبرى - تخضع المقبولين لوظائفها لبرنامج تأهيلي مكثّف يمتدّ لعدة أشهر، حتى لو كان الموظف الجديد قد تلقّى التدريب العملي المقرّر في المنهج الدراسي. بعض الجامعات والكليات والمعاهد تشترط اجتياز برنامج تأهيلي في ختام الدراسة قبل منح وثيقة التخرج، ويلتحق به الطالب في مرفق خدمي مقبول من تلك المؤسسات التعليمية، وأمثلة ذلك متعدّدة ومتفاوتة في المدة والمنهجية والجدوى. في الكليات الصحية عامة تبلغ مدة البرنامج التأهيلي (فترة الامتياز) سنة كاملة. بعض كليات التربية تحدّد الفصل الأخير لتدريب ميداني، غير أن المدرّس المُعيّن بعد التخرج عليه أن يُمضي السنة الأولى تحت التمرين. وفي بعض جامعاتنا الحكومية والأهلية فإن الالتحاق ببرنامج للتدريب التعاوني (co-op) - ومدته غالباً بين ستة إلى سبعة أشهر - شرط للتخرج. أما معظم الجامعات والكليات والمعاهد الأخرى فهي إمّا لا تشترط برنامجاً للتدريب التعاوني للتخرج أو تكتفي ببرنامج للتدريب الصيفي أو تشترط برنامجاً تدريبياً قصير المدة (ثلاثة أشهر مثلاً) - مثل بعض كليات الهندسة - يقضيها الطالب بإحدى المؤسسات الخاصة التي يختارها. وقد تداركت هيئة المهندسين هذا القصور، وأحدثت برنامجاً لدعم الطالب بعد التخرج مدّته لا تقلّ عن ستة أشهر، ولكن البرنامج اختياري. ومع أن الكليات التقنية والمعاهد الصناعية تتميّز بنظام يتوازى فيه التعليم التطبيقي والنظري فإن بعض مؤسسات القطاع الخاص تشترط المهارات التي تتطلّبها تقنيتها ونوعية منتجاتها. وقد تداركت المؤسسة العامة للتدريب المهني والتقني من ناحيتها هذا النقص من خلال برامج تأهيل متنوّعة متخصصة مثل الشراكات الاستراتيجية مع قطاع الأعمال، وكلّيات التميّز مع شركات عالمية.
بصرف النظر عن المؤسسات التعليمية الصحية والتقنية المهنية التي استقر فيها - فيما يظهر لي - وضع التأهيل العملي قبل أو مع التخرج، فإن المؤسسات التعليمية الأخرى تدرك الحاجة إلى (التدريب التعاوني)، وكثير منها يطبقه بالفعل ولكن بأساليب مختلفة ودرجات متفاوتة من الكفاية والكفاءة. وللطلاب من جهتهم ملاحظات أهمّها:
- أن بعض البرامج قصيرة المدة هزيلة المحتوى، لا تؤدّي إلا وظيفة شكلية لاستكمال أوراق التخرج.
- شكوى الطلاب - كما يتضح من تصفّح الإنترنت- من صعوبة الحصول على مكان للتدريب التعاوني، أو عدم معرفتهم بالمكان الملائم للتدريب، ويطلبون التوجيه والمشورة.
- بعض من التحقوا بالتدريب التعاوني لا يشفع لهم اجتياز البرنامج ولا محتواه عند التقدّم للوظيفة. بل إن صاحب العمل ينظر فقط للمعدل الذي حصل عليه الخريج، مع أن المعدل قد يرتفع بدرجات مواد لا تعدّ ذات علاقة مباشرة بطبيعة العمل. في حين أن أهمية التدريب التعاوني -بل والغرض منه - تكمن في أنه يمثّل التجربة العملية الأولى لممارسة المهنة التي يتمّ من خلالها تحضير الخريج ليكون مؤهّلاً لسوق العمل، ومن ثَمّ لا يكون عديم التجربة يبدأ كل شيء من الصفر عندما يحصل على الوظيفة. فبهذا يتحقق المطلب الرئيسي الذي يحتجّ به صاحب العمل.
ماذا نفعل لضمان فعالية التدريب التعاوني؟
= إيجاد تجانس والتزام بين الجامعات والمعاهد في تقنين وتوحيد معايير التدريب التعاوني حسب التخصص الدراسي، واعتباره جزءاً من النظام التعليمي.
= ضرورة قيام المؤسسات التعليمية بتخصيص جهة معيّنة لتكون حلقة الوصل بين الطلاب المقبلين على التخرج أو المتخرجين وبين مؤسسات العمل الحكومية والخاصة من حيث إمكانات ومقاعد التدريب وتنظيم التحاق الطلاب بها.
= تأكيد جودة التدريب التعاوني وضمان جدّيته وتقييم الطالب من حيث المشاركة والانضباط، وإعداد تقارير دورية عن نشاط الطالب وعمله، وتحفيز الملتحقين حسب الحال على حضور دورات تدريب في مجال الحاسب الآلي أو اللغة الإنجليزية أو حضور ورشات عمل في مجال التخصص مع إدراج ذلك كدرجات إضافية في المعدل.
= مطالبة جهات العمل - من خلال وزارة العمل أو وزارة الخدمة المدنية - بوضع اجتياز التدريب التعاوني جنباً إلى جنب مع المعدل الدراسي عند تقييم المتقدم للوظيفة.