د. محمد عبدالله العوين
أكدت في مقالي السابق أنه ليس المهم من يحكم تركيا؛ لا حزبا ولا شخصا بقدر ما يهم أن أين يتجه الحزب أو الشخص بتركيا؛ إلى التغريب والعلمنة والانسلاخ من المحيطين العربي والإسلامي كما فعل كمال أتاتورك، أو ورثة مدرسته العسكريون الذين يراقبون مدى محافظة تركيا على الخط الكمالي فينقلبون على من يخرج عليه بحجة خيانة الدستور كما فعلوا مع عدنان مندريس 1960م أو كما فعل كنعان إيفرين 1980م أو كما فعل الجيش بالثورة البيضاء 1997م.
وقد يتساءل أي متابع : لم هذا الاهتمام الشديد بالمسألة التركية ؟! وأجيب: الاهتمام نابع من كون المنطقة العربية والإسلامية تمر بمرحلة تحولات خطيرة لها ما بعدها، ثم إنه يأتي في خضم الفوضى التي لا زالت تعصف بأربع دول عربية، وتركيا تقف من اثنتين منها بمثابة البوابة التي تمر من خلالها أو تعبر إليها أو ربما تنطلق منها الأحداث والأفراد والجماعات، ولأن تركيا أيضا ذات صبغة إسلامية تتربع على أهم نقطة تواصل بين الشرق والغرب وبين العالم العربي وأوروبا، ولأن تركيا انتزعت من أوروبا قسرا منذ محمد الفاتح مركز الفرجار بين القارات ولا زالت أصوات كنسية متطرفة تطالب باسترداد كنيسة أياصوفيا وهدم جامع السلطان أحمد؛ لكل تلك الأسباب والمسوغات يأتي اهتمام متابعي ما حدث من محاولة تغيير أو انقلاب فاشل لم يتم هدفه إحداث تغيير في مسار تركيا وتهيئتها لمرحلة جديدة من الانصهار في أوروبا بعد أن كاد يتلاشى تأثير أتاتورك في المجتمع التركي.
ليس مهما تقارب حزب «العدالة والتنمية» الحاكم مع جماعة الإخوان؛ فهذه مرحلة قابلة للتحول والتغير بوصول حزب آخر أو صعود نجم شخصية سياسية أخرى تحول مسار الخط السياسي والفكري في تركيا. الأكثر أهمية بقاء تركيا نفسها ضمن المنظومة الإسلامية، وبقاء تركيا نفسها جزءا مهما في تاريخ العرب والمسلمين، ومهما اختلفنا أو حتى تألمنا مما حدث في الحقب التركية التي هيمنت فيها على عالمنا العربي واستبدت ونالنا نحن في الجزيرة العربية ما نالنا من بطشها واستبدادها كما نال الشوام وغيرهم، وكما نال الأكراد والأرمن وغيرهم؛ فإننا لن نستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لنبدأ في المحاسبة والعقاب، فنحن الآن في مرحلة جديدة الخطر فيها شامل وعام، لا تفرقة فيها بين تركي وعربي أو باكستاني وأفغاني؛ الخطر يستهدف الأمة لا قطرا ولا شعبا بذاته، ومن يغمض عينه ولا ينظر إلا إلى بلده وفق رؤية ضيقة تتطلب الخلاص الفردي فحسب؛ فإنه لن يتأتى له ذلك مهما تنازل أو هادن، ومهما قدم من فروض الطاعة في مرحلة إعادة رسم خرائط المنطقة التي اتفق عليها 1916م وبدأ تنفيذها عام 1922 ولا زالت مراقبة التنفيذ والتعديل مستمرة؛ لئلا يستيقظ المارد العربي والإسلامي النائم.
لا مفر من إعادة لملمة صفوف الأمة كما تم في «التحالف العربي»و «التحالف الإسلامي» وبدون مقاومة جماعية وممانعة حقيقية تجاه «الفوضى الخلاقة» لن ينجو بلد عربي أو إسلامي.
وإذا كانت البلدان العربية مستهدفة بـ «الفوضى الخلاقة» وقد اشتعلت الحرائق في أربع دول منها، وربما تمتد إلى أخرى ونسأل الله لها السلامة؛ فإن دولا إسلامية قد رسم في المخطط أن يعاد تفتيها ومنح الأقليات والعرقيات فيها كانتونات خاصة، ومنها تركيا وإيران وباكستان.
أما أولئك السادرون في أحلامهم الذين يريدوننا أن ننبت عن محيطنا الإسلامي؛ بحساسية نابعة في صدورهم تجاه كل ما هو إسلامي؛ فهم مع الأسف الشديد يستجيبون لمشاعر نابعة من موقف كونته الحركات والجماعات المتطرفة التي شوهت الإسلام لا في رؤية العالم؛ بل حتى عند بعض أبنائنا.
ومع كل ما نشعر به جميعا من ضيق وحرج تجاه ما يرتكبه المتطرفون؛ إلا أن العقلاء يعلمون أننا لا يمكن أن ننفصل عن محيطنا الإسلامي؛ وبخاصة أن بلادنا هي مهبط الوحي وتحتضن قبلة المسلمين ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الخطر يستهدف الجميع إلا أنه يأخذ دولنا واحدة إثر أخرى.
واهتمامنا بما يحدث في محيطنا العربي والإسلامي لا يعني أبدا أننا لا نلقي اهتماما بما فيه مصلحة بلادنا، وأجد أن في هذه النظرة من القصور في الرؤية وضيق الأفق ما يثير السخرية والمرارة في آن معا.