إن الشكر درجة من درجات المشاعر العالية وهي لغة متقدمة لا تجيدها إلا الأنفس الزكية الكريمة وهذه اللغة تتحقق غالبا في إطارات المنافع المتبادلة وإن كانت لا تختص بها ولكون الشكر درجة متقدمة وعالية كان لزاما علينا أن نستحضر ونعي أهمية الشكر في تجربتنا الحياتية. والشكر ابتداء هو اعتراف بمعروف تحقق لنا وهو أيضا أن ترقَّ فكريا ومشاعريا فتشعر بامتلاء من صنيع أحدهم سواء كان ذلك هو الله أو أحد من الناس وهو كذلك تخاطب قلبيٌّ حيٌّ إذ يتولى القلب هذه المخاطبة ولذلك يصح لنا بأن نقول بأن الشكر امتياز قلبي ولعلنا نتناول الأمر من خلال هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: بوابة المزيد:
لا بد من الوعي بأن الشكر هو بوابة المزيد قال الله في محكم التنزيل {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} وهذا قانون ثابت في تعاملات الله سبحانه معنا فكلما شكرنا كلما زادنا وما أجملك يا زيادات الله. ومن جميل ما قاله الإمام جعفر الصادق: إذا سَمِعَتْ النعمة الشكرَ فتأهب للمزيد.وما يدل على الأهمية الكبيرة لهذه البوابة العظيمة وصية سيدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث أخذ بيده وقال له: (يا معاذ والله إني لأحبك, والله إني لأحبك. أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك, وشكرك, وحسن عبادتك) فمما خصصه لمن يحبه هنا محاولة رفع وعيه إلى الاهتمام بهذه اللغة أعني لغة الشكر.
الوقفة الثانية: صفوة الخلق والشكر:
نلاحظ من خلال تتبع بعض آيات الكتاب المبين بأن الله ربط ما بين الشكر وبعض أنبيائه فهذا سليمان عليه السلام قال عنه: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}. ومع نوح عليه السلام أيضا قال عنه: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ومع لقمان أيضا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} إذن هذه النماذج لهؤلاء الأنبياء العظماء كانت؛ كي نتمثلها في سلوكياتنا ونطبق ممارسة الشكر كما كانوا يطبقون.
الوقفة الثالثة: القلوب المغلقة
بعض القلوب تكاد تلمس انغلاقاتها عن الشكر فتمر عليها الأيام المتواليات والمواقف التي تستوجب شكرا وامتنانا ولكن ما منعه إلا البلادة والانغلاق إذ لا يتصور مطلقا أنه لا ينفتح قلبك لشكر الله سبحانه وهو الذي يولي عليك نعمه ظاهرة وباطنة وأيضا لا يتصور أن لا تشكر أحد من الناس, فعد سريعا إلى قلبك وتفقده وإياك أن يكون منغلقا فلا يشكر ولا يمتن لأحد وثق بأن كل نجاحات تكاثرت في خط حياتك فإن خلفها شكر صادق وامتنان دائم.
الوقفة الرابعة: المقام الرفيع
مما نستدل به على رفعة مقام الشكر وعلو شأنه أن الله سبحانه وتعالى قد قرن بين شكره وعبادته فقال: {وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ولو قمنا بتفكيك هذا النص سنجد التالي: (شكر- الله - عبادة) ولو قمنا بعملية ربط وتجريد لكانت النتيجة كالتالي: الشكر ممارسة إنسانية/ فعل, والله سبحانه وتعالى هو الخالق والمتفرد بالعبادة, والعبادة هي حق الله على الناس وحتى يكتمل الإطار سرنبطها بمفهومي (الإستخلاف والأمانة) فنقول: إن كل من يستشعر بأنه خليفة الله في الأرض ويعي حقيقة الوعي بأنه يحمل أمانة رفضت حملها السموات والأرض ويمارس عبادة الله كما طلب الله فإنه يقينا سيهتم بالمقام الرفيع/ الشكر لأنه من صميم العبادة ومن مقتضيات التطبيق العملي للمفهومين السابقين أعني مفهومي (الاستخلاف والاستئمان).
الوقفة الخامسة:
ابحث عن تلك الأبواب التي يبادلك الله فيها الشكر السريع والجزاء الكبير نعم هناك أبوابا فتلمسها ولا تحتقر منها شيئا ربما تكون موقفا مع إنسان يمر بظروف معينة, أو مع حيوان كذلك يمر بظروف معينة نعم مع حيوان أو ليس هو من مخلوقات الله وإليك هذا الحديث فعن سيدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش, فأخذ الرجل خُفهُ فجعل يغرف له به حتى أرواه, فشكر الله له, فأدخله الجنة). فهذا نموذج لباب شكر الله السريع فاجتهد في إيجاد تلك الأبواب واعلم أنه لا حصر لها وأن لكل واحد منا أبوابه.ومن اللطف الذي يبادلنا الله إياه وهو الغني كل الغنى عنا أنه يقول عن نفسه سبحانه في محكم التنزيل: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} وأيضا يقول: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. فإذا كان الله سبحانه خالق الأكوان ومدبر الأمور والحي القيوم يشكر وهو شكور أفلا نجعل لنا من ذلك نصيب؛ بل وأعلى النصيب. وفي دراسة قام بها الدكتور Robert Emmon وفريق البحث في جامعة كاليفورنيا بدراسة الفوائد الصحية للشكر، وقد وجد بنتيجة تجاربه على الطلاب أن الشكر يؤدي إلى السعادة وإلى استقرار الحالة العاطفية وإلى صحة نفسية وجسدية أفضل. فالطلاب الذين يمارسون الشكر كانوا أكثر تفاؤلاً وأكثر تمتعاً بالحياة ومناعتهم أفضل ضد الأمراض. وحتى إن مستوى النوم لديهم أفضل! ومن جميل ما قرأت للمفكر محمد الدحيم قوله أن عمق الشكر وروعة الإمتنان هي في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}. فعليك بلزوم هذا المقام لترتفع روحيا إلى المقامات الساميات العاليات وأدرك بأن الشكر إنما هو استكثار من النعم. اللهم افتح بصائرنا لشكرك والامتنان.