د. خيرية السقاف
في مقالي أمس الأول أخرجت سؤالاً لفلسطين دوماً يعتلج في صدري مذ فلسطين قضية العرب الأولى ونحن نلثغ حروفها في أناشيد المدرسة الصباحية, ولا ندلف إلى فصولنا الصباحية وإنْ كان الجو زمهريرَ برد, أو صيفٍ قبل أن نزجيها التحية في طابور الافتتاح ونتجه للدرس, نتسابق فرحات إلى مقاعدنا بعد أن وشمت فلسطين في ضمائرنا, فإذا ما جاء صباح عسلي علينا طلبت منا مدرِّستنا أن نجعل لفلسطين شيئاً من « مصروفنا» المدرسي فذهبنا نتبارى بين الربع, والنصف من الريال, أو كله كاملاً, ففي فصلنا المدرسي كانت هناك على طاولة المعلمة حافظة معدنية للنقود, وقبل أن نحيِّي معلمتنا في «الحصة» الأولى كل يوم كانت «قروشنا» لفلسطين قد أخذت مكانها فيها, فنكون كمن قد تحلل من همٍّ, نشعر براحة ضمير بعد أن أدينا واجبنا نحو «فلسطين»..!!
وكبرنا ومعنا تكبر وتتغلغل « فلسطين» في وجداننا وتفكيرنا, بينما هي في «الهلاك» و»التغييب», ومع ذلك تبقى القضية التي لا ينازعها في صدورنا غيرها, في حين تتكالب كل المتغيرات, وجميع السبل, والمواقف, والعقود التي تمر لتهمشها فوق الطاولات, وتمرر ما يمحوها تحتها, حتى لحق بكثير من الهمم الوهن في شأنها, باندماج القضايا, حتى رُكنت «فلسطين» في زاوية من ذاكرة الناس, والأجيال التي نشأت تسمع عنها غوغاء, ولا تعلم حقائق وتفاصيل,, وهي إنْ تابعت ما يجري فيها, فإنها تعرفها ولا تعرفها,
لقد تشظّى الإحساس الجمعي بها, وبقيت فلسطين تناضل بمن صمد ممن فيها ولا يزال يقدم دماءه, وبعد أن خرج منها من يعيش حياته في رفاه ليس له من فلسطين إلا ذكرى, وليس لأبنائه منها إلا قصة, لكنها قضية أُمّة, ودول, ودين, ودم, وتأريخ,
ومع كل ما يحدث, ويجري لفلسطين بقيت وستبقى قضية ليست قابلة للتهميش, ولا للتطبيع, وإن تقادم عليها زمن الجور, والانتهاك , والاستلاب, تبقى» الحزينة التي لا فيها فرحة ولا فيها زينة» كما كنا نردد من نشيد طفولي لا تزال كلماته محركاً لأقصى كمون ودود في الجوف..!!
كنت قبل أيام أفكر كيف مع الأحداث العامة التي اعترت الساحة بل العمق العربي, وشغلت بها مجتمعاتنا في المنطقة بوسعها, أن تُركن «فلسطين» في الزاوية الأقصى من الاهتمام اليومي للمسلمين والعرب..؟! ويموج الضباب في ذاكرة حاضرة عنها فيهم..؟!
وكنت أفكر لمَ لا تكون أول القضايا في جداول أعمال الدول العربية المسلمة كما كانت, وإن لم تحل هذه القضية منذ أكثر من نصف قرن, ويزيد..؟ فإذا بها تتصدّر «التذكير» بها في الاجتماع الأخير لقادتهم في «نواكشوط» بموريتانيا قبل أسبوع..
ثم كتبت لها العبارة السابقة في مقالي أول أمس أسألها: «فلسطين, ألا تزالين في الخاطر؟ تراكمت حرائقه, وأنتِ أنجوتِ فيه..؟!»
لأجد في اليوم التالي - الذي هو أمس - مقالاً حازماً لقضية حاسمة كتبه الكاتب القدير الدكتور جاسر الحربش الطبيب الذي كما يضع يده على الجرح المؤلم في جسد الإنسان فيقر له دواءه، وضع يده على جرح «فلسطين» بمن ابتلي بأمر التهاون من أفراد هذا الوطن بقضيتها, وهي الأساس في قضايا الأمة العربية المسلمة, جاء مقاله المميز والصريح والصادق بعنوان:
(عن زيارة عشقي للعشقناز)», ليؤجِّج به كل ذاكرة «مستنومة» عن «فلسطين»,
جاء مقاله ليجلي فيه بوعي عن العلاقة المتضادة بين العرب والمسلمين والمحتلين من جهة, ثم عن تلك المساعي الخفية, والظاهرة التي يمرر بها أصحابها, وتبرر بها إسرائيل عن قبولهم للتطبيع معها, بينما أمر التطبيع معها أمر مقضي برفضه مذ حملت هذه الدولة مسؤولية الصدارة في الرفض القاطع لاحتلال إسرائيل فلسطين, وما يجري من تشريد وتشتيت أهلها, وانتهاك مقدراتها, والجور في التمادي دماراً, وتوسعاً لاستيطانهم أراضيها, والعبث بالتاريخ..
ولا يليق بفرد من هذا الوطن أن يخطو فرداً إليهم ليكون مادة لتمرير غايات بني إسرائيل، ويخدش موقف بلاده, وأهلها, وهو جلي في هذا الشأن منذ بدء وقوع فلسطين في براثنهم.
جاء مقال د. جاسر الحربش عن موقف بالغ الأهمية, ليس بذهاب شخص من كتب عنه إلى الإسرائيليين بصفته الشخصية , واجتماعه بمسؤوليهم, ومصافحتهم, والتصوير معهم, وإنما لأنّ هذا الأمر خارج عن «الفردية», ويمثل كيان هذا الوطن الذي يحمل هويته, وهو، أي هذا الوطن، هو المتصدِّر لقضايا الأمة العربية المسلمة, بما يسيء لها حين يلتقي رجل من أفرادها بمن تسارعوا بالاحتفاء بزيارته من المحتلين مستغلين هذه «الزيارة» لأغراضهم، إذ سلّطوا الضوء الإعلامي عليها بهدف الإعلان عن «وصول التطبيع معهم إلى مستوى متقدم» عن رجل يحمل معرفات تخدم هذا التوجه لديهم كما جاء في مقالة د. الحربش.
ومع أنّ هناك المئات منا من يقابلون أفراداً من الإسرائيليين, ويتبادلون معهم الحوار الشخصي حين تزجهم الصدف, كما هناك من المسؤولين من يتعرض لمثل هذه المواقف مع مسؤولين منهم, لكن العبرة أنه ليس سعياً إليهم بالتأكيد, ومن ثم يكون الفيصل في الموقف قدرة الحجة الفكرية, والمعرفية, واللغوية التي يخرج بها الطرف العربي قوياً مؤثراً, وإن لم يحدث لفلسطين أن خرجت من عنق زجاجة إسرائيل حتى الآن, إلا أنّ ما ركّزت عليه مقالة د. الحربش ينحصر في البعد التأريخي لقضية فلسطين مع بني إسرائيل من جهة, ونقض تلك الزيارة وحيثيات ما تتداعى به للموقف التأريخي لهذه البلاد منها من الجانب الآخر الأهم.
شكراً د. جاسر.. شكراً