د. خيرية السقاف
لأنّ الحياة كانت جميلة, موئل الزرع, وانتظار الحصاد بهمّة عالية, كان الناس يألفون الأخبار الطيبة التي تزيدهم دافعية, وتحشد في نفوسهم همم العطاء, وتهيئهم للنماء, لذا كانوا لا يتناقلون السيئ من الأحداث,ولا المرهِق للنفوس من الجرائم البشرية مع أنها موضع حدود, وضمن قوانين, ولها عقوبات, وغير منكرة في السلوك البشري, لكنها نادرة لأنّ الناس كانت تهاب الخطيئة, وتحسب للجرم أهمية, وتردع النفس عن هواها, ويتعرف الصغير عليها عندما يرشُد ويكون قد علم بالحدود, وتدرب على الضابط, وميّز بين الخير والشر, وتوطنت فيه قيم الجمال, وسلوكه...
وحين يحدث حدثٌ منفرط منها لا يعمّم نقله, وتجد الكبار يتهامسون عنه وهم يحوقلون, ويستغفرون, بل يهزون رؤوسهم إنكاراً له..
الصغار كانوا في مأمن نفسي عن الحدث السيئ النادر، لذا كانت نفوسهم مرتع الفرحة, والضحكة, والبراءة, فحولهم يشاع الجمال طعماً, ورائحة, وذائقة, وسلوكاً.. يحرص الجميع على هذا المناخ السلمي العام, وفي تنشئتهم تحديداً.
لا ندري هل كل الذي يحدث الآن, أو شيء كثير منه كان يحدث من قبل حين كانت الحياة جميلة, أو لعلها كانت مغلّفة بالجمال للصغار من قبل, وكان آباؤنا هم من يتحمل عبء عزلهم عن قبحها الفادح الذي نشهده الآن ..؟
أو أنه حقيقة قد فسدت الآن الحياة, وقبحت بفعل أبنائها المنفرطين في الفساد, الموغلين في الإجرام بأنواعه, وأبعاده, حتى بتنا ننام على فزع الأنباء, ونستيقظ على جرائم الأبناء, والأزواج, والأمهات, وزملاء العمل, والرفقة..؟
تسفر هذه الأحداث كل يوم في قتل سافر للأمهات, وتعنيف جائر للأبناء, وإزهاق مسرف لأرواح الزوجات, وزملاء العمل, والرفقة, ناهيك عمن يسرق في وضح النهار, وعمن يتستر في عين الشمس, وعمن يتسلل في غسق الظلمة , وعمن ينقض أبنية العفة, والأمانة, والصدق, والخير, حتى بات الخيِّرون, والطيبون, والأخلاقيون نماذج الأسماك الصغيرة في المحيط الكبير..؟
وحتى أصبحت هذه المفاسد على مسمع الصغار, ومحور أحاديثهم, ومرتع تخيلاتهم, وموقد قلقهم, واضطرابهم, ومحرك فزعهم..؟
وحتى بهتت البراءة في أحاديثهم, وقفزت فوق جباههم الحيرة بعد أن تاهت البسمة عن شفاههم, وعلا بكاؤهم في موضع ضحكاتهم..؟!
هذه النفوس الصغيرة أثقلها همّ الكبار من حولها كثيراً.., وشوّه الحياة لها..!!
أثمة ما يمكن أن يعزلهم عن هذا الوجه المخيف لهذه الحياة ؟
أثمة ما يفصل في ثقافتهم بين الخيط الأبيض والأسود من حقائق عن الإنسان في حالته الراهنة..؟
أثمة ما يطمئن قلوبهم وهم يسيرون في الشارع, ويخرجون للمدرسة, ويرغبون في الترفيه, ويجالسون التلفاز, والأجهزة الناقلة..؟
أثمة ما يعين على نخل المعطيات التي يتلقّونها من حولهم لاستخلاص ما يقرُّ في مكنونهم رائحة الزهر بدل العفن, وطعم الفرح بدل المر, ولون النور بدل الظلام ..؟
أثمة ما يمحو عن أذهانهم أنّ السكين ليس لذبح الرقاب, وطعن الأحباب, وإنما لتنسيق شرائح التفاح, والبرتقال, والكعك اللذيذ.., وأنّ الرجل الغريب ليس القاتل, ولا السارق, ولا الخاطف, ولا المدجج بالذخيرة..؟
و... و... و !!
فما الذي يحمي الصغار مما يرون, ويسمعون ..؟
وفي الحقيقة ما الذي يحمي الكبار أيضاً من هذا المُسْرَف الذي اندلق وتدفق ..؟
والأناشيد, والنثر, والشعر, والفرح, والفضاء الذهني, والمدى المرئي, ومكنون القلوب, وذرات الفكر, ومجال السمع, والإبصار في الحول من حولنا تعجُّ كلها بالنشاز, وتفرغ من الجمال, وتنغمس في العتمة..؟!
فكيف نحمي الصغار مما ينغمسون فيه من هذا النشاز, والقبح, والعتمة ..؟