عبدالعزيز السماري
كانت آخر أيام الشيوعي العربي السابق والإسلامي المعاصر أشبه بمرثيات رجل عجوز خسر أصدقاءه، وبعض من عائلته وأمواله في حروب غير متكافئة، كان شبابه حافلاً بمغامرات القتال في جبهات الكفاح ضد الاستعمار في الدول المجاورة، وكان يحمل في يده اليمنى كلاشينكوف روسي الصنع، وفي يده اليسرى تعليمات كارل ماركس..
لأسباب لا أفهمها كان يؤمن عن قناعة مطلقة أن النصر قادم للمناضلين، وأن الكفاح ضد القوى الإمبريالية سيؤدي في نهاية الأمر إلى هيمنة العدالة على العالم، وإلى وصول العمال إلى كراسي الحكم في العالم، ثم إجبار القوى الإقطاعية على تسليم ممتلكاتهم و توزيعها بمساواة على العمال الكادحين، لكن وجه الغرابة أنه لم يكن عاملاً، ولم يكدح طوال حياته في الحقل أو المصنع، ككثير من شيوعي العرب..
كان عام النكسة بداية التحول بعد أن اكتشف أن الشيوعية والماركسية نبتة غريبة على الأرض الطيبة، فقد خرجت في بيئة يحكمها الإقطاع والمصانع والاحتكار، وكان خلفها فكر طبقي وظلم اجتماعي، ولهذا السبب لم تجد تلك النبتة بيئتها في الأرض العربية، والذي كان تحكمه لقرون عديدة القبيلة والدين، ولم يدخل بعد في عصر الصناعة، وكانت الزراعة في بعض الأقطار مرتبطة بجريان الأنهار..
استهوته كثيراً المقولة الشهيرة (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، ومن تلك اللحظة بدأ يتخلى عن كارل ماركس ونظرياته في صراع الطبقات، ويسترجع بطولات المسلمين الأوائل، الذي انتصروا على القوى العظمى بأسلحتهم البدائية، فقد كان إيمانهم أقوى، وكانت الملائكة تنزل لتحارب معهم ضد خصومهم الكفار.
كان واثقاً من النصر، وانتقد كثيراً الجالسين على أرصفة الأحلام من دعاة الإسلام، وأن عليهم أن يدركوا أن التاريخ ليس قاعة انتظار، وأن الإسلام لم يفتح بلاد الإفرنجة بصناديق الاقتراع...
كان يشعر أن تلك اللحظة قد اقتربت، وكان في حالة أقرب للنشوة، وهو يستمع إلى خطبة مسجلة لزعيم القاعدة أسامة بن لادن في عام 1998م، والتي أعلن فيها بدء الحرب الدينية ضد الغرب الكافر، وأنهم لمنتصرون في جهادهم ضد الكفار أينما حلوا، كان دائما ما يصفهم بالمجاهدين، الذي سيعيدون النصر المظفر لأمة الإسلام.
لم يكن الشيوعي السابق والإسلامي الجهادي الجديد بذلك المتدين الذي يحرص على بعثرة اللحية أو حف الشوارب، أو فتاوى تحريم طقطقة الأصابع أو صبغ الشعر بالسواد، فروح المناضل لم تختف من قسمات وجهه، وشنب ستالين لم يتعرض للقص امتثالاً للأمر النبوي، لكن مفرداته تغيرت، ووصل إلى درجة منظر أول في الصراع بين الغرب والجهاديين بقيادة شيخهم وإمامهم وجنودهم المجهولين..
لم تكن النتيجة أفضل من سابقتها، فقد حل الدمار في الأرض العربية، لأن الزمن يختلف، والإنسان أيضاً يختلف عن عصور المسلمين الأوائل، و أن الأمر برمته له علاقة بنظرية التطور والإبداع الإنساني، التي رفضها العقل السلفي الماضوي، واعتنقها العقل البشري في الغرب منذ سقوط غرناطة، فحدثت تحولات عظمى في تاريخ الإنسانية..، وكان العرب الخاسر الأكبر..في هذا الزمن!
أدرك الشيوعي السابق والإسلامي الجهادي المعاصر ذلك متأخراً، فالمعركة مع الغرب لم تخلف إلا الهلاك والموت، وربما أدرك أيضاً أن التخلف الحضاري سببه الجهل والأمية والعنصرية وأيضاً النرجسية غير المبررة، وقد حارب العرب من خلال مختلف الأيديولجيات القومية والشيوعية والدينية، وخسروا، لكنهم لم يحاربوا بعد من خلال الحرية والعقل والإصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية..
قدم الشيخ الطاعن في السن مراجعات في غاية الندم لأبنائه وأتباعه، واعترف لهم أنه أخطأ الطريق مرتين، وأن ثورة العمال لم تنجح لأن الجوع أنهك العمال في ميادين القتال، فخارت قواهم أمام العدو الثري والمتطور..، وأن الجهاد الإسلامي بالأسلحة البدائية وتفخيخ الأجساد لم يأت بنتيجة لأن الله عز وجل لم يرسل إليهم جنوداً من السماء، وربما لأنهم لم يكونوا على قدر من التمكين،..
مهما اختلفنا أو اتفقنا على أمور كثيرة في هيمنة الغرب، لابد من إدراك حقيقة مهمة جداً أن إطلاق العقل من القيود ساهم في إحكام سيطرتهم على العالم، كذلك ساعدت أبوابهم المفتوحة للمبدعين في الانفتاح على العالم، ثم ربط مصالح الدول والأفراد بالخزينة الغربية، والأهم من ذلك أن الطريق إلى النصر الحضاري يبدأ أولاً من إصلاح العقول في نظرتها للأشياء بقدر كبير من العقلانية والمعرفة والموضوعية، والله المستعان..