د.عبدالعزيز الجار الله
رحل عن دنيانا أكثر الناس دراية بالراحلين لأنه مؤرخ وحافظ للسير الكاتب د. عبدالله العسكر -رحمه الله رحمة واسعة-، غاص في أغوار الأزمنة وحفر الحزوز الموغلة في الحقب وسنوات البشر المديدة، عاش مع البلدانيين والمستشرقين ورحالة جزيرة العرب ومع أمم عربية كانت تمشي مع قوافل الزمن في صحراء عطشى لا صوت فيها إلا عزف الرمال وهي تحتك بأبرق الجبال. كان عبدالله العسكر يجمع حكايات الأمس بوعي الحاضر حكاية المجمعة وسدير والقصيم ويمامة الخرج وحجر الرياض، وملح أحجار جبيل الخليج وشطآن بحر جدة، وحمادة الشمال ونهايات ربعنا الخالي جنوب، يجمعها ليحمي ممتلكاتنا التاريخية، يحميها من غزاة الفكر ومن المتربصين على تخوم أطراف بلادنا.
في كل مرة ألتقي بها بالدكتور العسكر-عليه رحمة الله- في المؤسسات الإعلامية وفي الجامعات واللقاءات الخاصة أنظر في بياض عينيه فأقرأ حكاية لم تنته، في عينيه حب للآخرين لا حدود له، في عينيه بحر من المحبة استوعب الناس والأزمنة والحقب المتعاقبة، الذي يعرف العسكر عن قرب يدرك أن له قلباً يتسع لكل الأجناس، هكذا هم أهل التاريخ يوائمون بين الناس والزمن ويفرطون في حب الآخرين بلا مرجعيات جغرافية أو عرقية أو ثقافية، أهل التاريخ فيهم ولع غامر بالأنثروبولوجيا الثقافية للإنسان فلا (يمايزون) في المشاعر الإنسانية مع الآخرين لذا تجد الحب عندهم يفيض بلا رقيب، وهذا ما حدث مع عبدالله العسكر عندما انتشر خبر وفاته تناقلته وسائل الإعلام و والتواصل الاجتماعي بسرعة تترحم وتذكره بكل محبة وحنينيه فأصبح الخبر شعلة لا تنطفي.
الذي يحب الناس ولا يسعى إلى إيذائهم بالكلمة والعبارة والمغالطة التاريخية كما كان العسكر رشيقاً في عبارته أنيقاً في انتقاء الكلمة عميقاً في نظرته للصراعات تسمو روحه فوق الصغائر في روايات التاريخ يبقى كالوميض الساطع في السماء، هذا الرصيد من الحياد الإيجابي وهذه الحصانات الثقافية والاجتماعية التي يتمتع بها العسكر جعلته في صورة الباحث الجاد الذي يعمل على التحليل ويقارب الروايات مع الربط والعمق المعرفي -جعلت- كتبه وأبحاثه العديدة مصدر ثقة واطمئنان.
لدينا شخصيات مثقفة ترحل فجأة عنا ولديهم حكايات علمية وثقافية لم تكتمل ويأخذنا الحماس لإكمالها لكننا لا ننفذ، فالسلافة وهي خلاصة الحدث لا يكملها إلا صاحبها، لذا من المناسب أن تتولى إحدى الجهات العلمية في جمع أعمال د. عبدالله العسكر في مجموعة كاملة، وأن تتولى إحدى أجهزتنا العلمية تدوين أعمال الباحثين وهم بيننا ليكملوا أبحاثهم قبل أن يرحلوا.