د. فاطمة العتيبي
- فنلندا
لماذا ظلت فنلندا تحظى بهذا التقدم المطرد في التنمية وحيازة قصب السبق في المقارنات الدولية في الأداء والجودة في أهم المؤشرات التنافسية كالتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية منذ 2009 ثم حازت في 2010 لقب أفضل دولة في العالم في معدلات النمو والاستقرار.
لماذا يتقدم الفنلنديون ولايتراجعون وإن تقدم عليهم آخرون في مؤشر 2016 فذاك لأن دول مثل سنغافورة وهونغ كونغ حققت قفزات عالية جدا في التنمية. وهولايعني ضمنا أنها تراجعت فهي لازالت تتقدم وتحقق نموا متزايدا مقارنة بالأعوام السابقة, وهذا هو المحك الأكثر أهمية في التقييم الدولي:
هل تتقدم في التنمية والاستقرار أم تتراجع؟
في النظر لتجربة فنلندا يلزم التعاطي بوعي وثقافة شاملة مع جوهر هذه التجربة وليس شكلياتها أو نقل تصور سطحي منبت عن جذوره والعمل على تقليد ومحاكاة الظاهر والناتئ دون البحث عن أس وقيمة وجذر هذا التميز.
ليست العبرة في الزيارات والجلوس على طاولة إجتماعات أو المرور بالمنشآت , إذ شاهدت في إحدى الزيارات من يصور طاولة اجتماعات في مدرسة دون أن يستمع لأسس الثقافة وتشريعاتها ودون أن يلتفت لتجهيزات المسرح الباذخة , أو ملاعب الكرة المتعددة أو صناديق الأحذية في الفصول أو نظام التواصل التقني المفتوح على مدار اليوم الدراسي داخل الفصل لاباء التلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصة أو مخارج الطوارئ أو الوسائل التعليمية والأنشطة (غرف التدريب النجارة والحدادة والكهرباء والطهي والرسم) أو محفزات المعلمين أو نظام المساءلة والعقوبات. أو معايير اختيار القيادات, أو معايير القبول في الجامعات؟ ثم فهمها واستيعابها وتكييفها ضمن سياق ثقافتنا الخاصة, لا أحد تمكن من ذلك بالشكل المطلوب وإلا لكان تعليمنا الأكثر تقدما منذ بدء سلسلة الافتتان بالزيارات الدولية قبل أكثر من عقدين. لكنها على مايبدو وعطفا على النتائج كانت تركز على ترجمة المصطلحات وإطلاق البرامج (الفرقعائية) ولا أدري إن كان أحد سبقني لاستخدام هذا المصطلح وهل هو مجاز من مجمع اللغة العربية!؟
ليست العبرة بالزيارات الدولية بل الأهم هو فكر ووعي من يقوم بالزيارة ومدى قدرته على استيعاب جوهر التجربة وأسها . وليس الانشغال بالشكليات!
فماهو جوهر التجربة الفنلندية ؟
إنه الحوكمة بلا ريب. هذا النهج التشريعي المحاسبي الذي يمكنه القفز على الإخفاقات المتراكمة والإقتصادات الأحادية, فقد كانت فنلندا تعتمد حتى خمسينيات القرن الماضي على الزراعة فقط ولاحظ أنها نافست عالميا في التسعينيات في تنوع الاقتصاد ومعدلات النمو والاستقرار, فقد ركز الفنلنديون على التعليم لأنه المحرك الأساس لعجلة التنمية وهو مثلما أكرر دائما حصان طراودة لاستقرار الدولة وتنميتها. والمساس به هو مساس في الدولة واستقرارها.
سن البرلمان في فنلندا قانون وتشريع أساسي للتعليم Basic Education act)) وفي عام 1998 أقر فيه نقل وإحالة وتفويض الصلاحيات المتعلقة باتخاذ القرارات التربوية المحلية للمستوى المحلي مع التشديد وتقديم الضمانات لاستمرارية منتظمة للمراجعة والتقييم الداخلي (أي على المستوى المحلي) وخارجي (أي على مستوى الدولة), وذلك لكافة مسارات العمليات الإدارية والفنية والتعليمية مع التشديد على نشر نتائج التقييم لكافة المواطنين وعبر منافذ النشر التقنية والبوابات الإلكترونية .وتهتم كثيرا بمؤسسات التعليم الثانوي باعتباره مناخا تنمو فيه أساليب الفساد والتلاعب في النتائج لصالح الأغنياء وذوي النفوذ فتحكم فيه قبضة الرقابة والمراجعة والتقييم المستمر لكافة مؤسساته التعليمية (C0mprehensive schools)
وتعمل الجهات المعنية في التعليم على إعداد خطة دقيقة وشاملة لمراجعة وتقييم كافة الجوانب ذات المساس بنتائج التلاميذ ونوعية التعليم الذي يتلقونه فتشمل: القيادة, النتائج المدرسية, المجال البيداغوجي, المجال العلائقي, كيفية استثمار الموارد المالية والبشرية, البيئة المدرسية.
التقييم والمراجعة المنتظمة ونشر نتائجها للعامة تؤدي إلى مشاركة حقيقية في نظام المحاسبية والتطوير ويحصر المسئولية في التقصير ولايستثني أحدا وبذلك يعمل الموظفون كبارا وصغارا على تحقيق أفضل العوائد والنتائج لأن هذا يدعم مكانتهم في المجتمع ويمهد لترقياتهم, وتعمل الحكومة الذكية على إبداء مرونة في الضغوط الزمانية والمكانية وتركز على الإدارة بالأهداف ممايجعل النتائج هي المحك في معايير تقييم الأداء وبذلك يظهر التمايز ومن ثم يتم دعم نقاط القوة بالحوافز ومعالجة القصور بالمساءلة وكشف مصدر الخلل.
ويتحق التمكين والعدالة وتساوي الفرص ويعلو مؤشر الانتماء وتتصاعد معدلات التنمية.
أطلعت وزارة التعليم على تجربة فنلندا واليابان وسنغافورة وأمريكا وبريطانيا وكان هناك (كوكتيل) تجارب, تنقل بمظاهرها السطحية ففي الجودة ومنذ 2009 نقلت تجربة اليابان وللأسف أنفقت مئات الملايين على برامج تدريبية لموارد بشرية ضعيفة ولاتملك مقومات التطوير فذهب المال وبقيت الموارد على حالها.
وفي التقويم طبقت وزارة التعليم تجربة فنلندا ورصدت مئات الملايين لكنها لم تترك للبرلمان (الشورى) سن التشريعات والقوانين بل تصدرت لها كمراجع خارجي (هيئة تقويم التعليم ) ثم لم تنتظم في تقييمها لسير العمليات التعليمية لأن معايير اختيار العاملين فيها كانت مخفية ولايعلم عنها أحد حتى تاريخه.
كما حاربت هيئة تقويم التعليم باعتبارها مراجع مستقل وخارجي -حاربت - المراجع الداخلي - داخل الوزارة - وذلك لأنه كشف قصورها وعدم جديتها في العمل لأنه أنتظم في عمله وقدم تقارير دورية كشف فيها للمسؤول الأول في الوزارة مواضع القصور وهو مالم تقم به الهيئة ذاتها. وفي رأيي أن هناك فرصة أمام وزارة التعليم كي تتمكن من الوفاء بالتزاماتها في رؤية 2030 تكمن في الاستفادة من الإخفاقات السابقة وذلك بأن تهتم أولا وأخيرا بتطبيق معايير شديدة في اختيار القيادات والمعلمين في الإدارات التعليمية وتهتم جدا بتصميم المناهج العصرية البسيطة وتركز على البحث العلمي والتفكير الناقد وتشدد على انتظام عمليات التقييم الداخلية والخارجية ونوعية تقاريرها وصدقها وتصغر طاولات الاجتماعات وتعمل على اتساع الفصول والمسارح والملاعب وتقلل من أعداد الموظفين في المركز.