علمتني جدتي كل شيء ولكن لم تعلمني كيف أصبر على فراقها..
وما انسدت الدنيا عليّ لضيقها
ولكن طرفاً لا أراك به أعمى
فوا أسفي ألا أكب مقبّلاً
لرأسك والصدر الذي مليء حزما
لفظت جدتي حصة بنت عبدالعزيز القشعمي أنفاسها الأخيرة في يوم الأربعاء الموافق 8 - 10 - 1437 هـ تاركة ًلنا إرثاً من المحبة والدعوات والذكريات التي تترنم في ذاكرتي من ذلك القلب الصادق والنفس الكريمة النابضة حباً وعطفاً وصفاءً وحناناً ولا أبالغ إن قلت إن دعواتها لي أكثر من دعواتها لنفسها..
آه يا جدتي.. لقد فقدناك وفقدنا ذلك اللسان الرطب الذاكر الشاكر وتلك الروح الوثابة التي لا تعرف حقداً ولا كراهية..
لقد علمتيني بواقعك وسلوكك الأخلاق الفاضلة والخلال النبيلة فكم كنتِ لي مربية ومعلمة..
كم تعجبت فيك يا جدتي حينما تعودين المريض في بيته رغم أن كبرت سنكِ وقلّت حيلتكِ سواء صغيراً كان المزور أو كبيراً..
تبادرين الأقارب والأحباب بالسلام والتهنئة وتشاركيهم أفراحهم وأتراحهم.. ليس في قاموسك قول: «لي الحق» مع أنك لك الحق والفضل إلا أن ( روح المبادرة ) مغروس في أعماق فؤادك..
ماذا أحدثكم عن جدتي:-
أحن إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضمَّ
أحبها الصغير قبل الكبير وكانت تمطرهم بدعواتها وأعطياتها وإن قلت..
تهوى خلق البسمة على من حولها..
كانت من أوائل من التحق بالدار النسائية لتحفيظ القرآن الكريم لم تراع في ذلك أميتها وتقدم سنها وضعف سمعها وبصرها وقلّت حيلتها علها أن تنال الخيرية في تعلم القرآن مستحضرة بلسان حالها: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)
إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
ولله الحمد تحقق هدفها في حفظ سوراً من القرآن الكريم رغم صعوبة حفظها إلا أنها لم تتخاذل أو تتكاسل..
صيام الاثنين والخميس والأيام البيض أصبح جزءًا من حياتها لا يمكن التنازل عنه إلا بعذر شرعي وكانت كثيراً ما تذكرنا وتوصينا بصيامهن..
ومن غريب أخبارها وليس بغريب على مثلها عمرتها السنوية الرمضانية وعكوفها طوال أيام الشهر في الحرم وفطورها الدائم مع الضعفاء والمساكين واتخذتهم أصحاباً لها توصلهم بأعطيتها ودعواتها, وفي آخر عمرها وعجزها عن العمرة كانت تودع من تعرف من أراد الذهاب للعمرة من المال ليوصله لصويحباتها المحتاجات وكانت تزوده بأرقامهن ليتواصل معهن هناك..
جدتي الفاضلة :-
كم أضفيتي على بيتنا من الأنس والسعادة..
كم أضفيتي لنا من الحنان والرعاية..
كم أضفيتي علينا من الأمان والطمأنينة..
مجرد رؤيتك يبعث في النفس شعوراً فريداً يصعب علي وصفه فهو أكبر من أن يوصف بمفردات..
لقد افتقدك كل شيء مصلاك, عباءتك الساترة, حجابك العاطر, عطرك الزاهر
افتقدك الجامع والذي كنت ترتادينه عند أي محاضرة تلقى فيه..
افتقدك محبوك الذين ملؤا الجامع والمقبرة للصلاة عليك والدعاء لك تخالطت عبراتهم بدعواتهم..
رقا دمعُها الجاري وجفت جفونها
وفارق حبي قلبها بعدما أدمى
أيا جدتي:-
لم ولن أنسى تلك الضمة في الثاني والعشرين من رمضان وأنتي في غرفة العناية حيث ضممتيني إلى صدرك الطاهر ضمة كان لها أثر بالغ في نفسي لم أتحمل ولم تقوَ رجلاي الوقوف من عظم الموقف حيث علمت أنها ضمت مودع لا محالة..
كثيراً ما رددت وهي على سرير المرض: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتٌُ}
أسأل ربي أن يبعثك ويرفعك بهذا القرآن العزيز..
فوالله إني أعلم يا جدتي علم يقين لو كنت بيننا لغضبت من بكائنا وحزننا وأوصيتينا بالدعاء والصدقة وصلة محبيك ولكن هي مشاعر خالجت قلبي فوددت أن أبدي ولو نزراً يسيراً مما عظم في نفسي علها تخفف من روعي وحزني وإلا فما خفي كان أعظم أثراً وأطيب ذكراً..
لكن لا أملك إلا دعواتي لربي بأن يفسح لك في قبرك ملء بصرك وأن ينزل عليك شأبيب الرحمات والضياء والنور والفسحة والسرور وأن يرزقك شربة من حوض نبينا لا تظمئين بعدها أبداً وأن يجمعنا بك ووالدينا في الفردوس الأعلى من الجنة..
أصْبَحتُ أسْتَسقي الغَمامَ لقَبرِها
وقد كنْتُ أستَسقي الوَغى والقنا الصُّمّا
- حفيدك/ عبدالرزاق عبدالمحسن القشعمي