حمّاد السالمي
* الفساد يعطل التنمية.. هذا ما تقوله لنا يافطات هيئة مكافحة الفساد على الطرق العامة، والعبارة تعبر بوضوح؛ عن صورة من صور النتائج السلبية للفساد الإداري والمالي، الذي لا يعطل التنمية فقط؛ ولكنه يعطل الإنسان الذي هو محور التنمية، ويحبط المواطن الذي ينتظر معاملة جيدة وعادلة في كافة المؤسسات الإدارية والمصالح الحكومية، ويحلم بتحقيق مطالبه وإنجاز معاملاته وفق الأنظمة المعمول بها في أسرع وقت وبأيسر الطرق.
* يبدو أن مساحة الانتظار هذه؛ آخذة في الاتساع، وأن الكثير من الأحلام التي تسير مع أصحابها صوب هذه الإدارة أو تلك؛ تبقى في دائرة الأحلام ذاتها، وأن بعض الضمائر الوظيفية المنوط بها خدمة المواطنين؛ تستتر تارة، وتغيب تارات، أو تعطي نفسها إجازة مما هو متوجب عليها تجاه الوظيفة الحكومية ذاتها.
* هل الموظف للوظيفة؛ أم الوظيفة للموظف..؟
* من المخجل والمعيب أن نسأل هكذا سؤال؛ بعد أن عمّ التعليم والتأهيل، وأصبح الوصول للوظيفة يمر عن طريق الشهادات والمسابقات التوظيفية، وفي زمن التطوير والثورة الرقمية التي وصلت حتى أدغال إفريقيا.
* لكن.. وآه من لكن.. فإنه من الواضح؛ أن البعض من موظفينا ما زال يعتقد أن الوظيفة المعين عليها هي من أملاكه الخاصة، وأن الكرسي الذي يجلس عليه، مفصل على مقاسه، وأنه لا يحق لأحد من المواطنين الذين يراجعون مكتبه الوثير؛ المطالبة بحق، أو التشكي من سوء استقبال وخشونة في المعاملة، عوضًا عن إنجاز ما هو مطلوب أصلًا بموجب الوظيفة.
* لا ينبيك مثل خبير، واسأل مجرب ولا تسأل طبيب كما يقال في الأمثال. إذا أردت أن تعرف مستوى الأداء في الخدمة العامة في هذه الجهة أو تلك، فاجلس إلى الطيبين الذين يترددون عادة على هذه الإدارات العامة، والذين يزجون أوقات نهاراتهم في متابعات ومراجعات، قد يصل بعضها إلى التوسلات وطلب الواسطات. إن ما يروى في مجالس هؤلاء الطيبين، هو من أصدق الكلام الذي ليس فيه رياء ولا مبالغة أو تدليس، لأنه لا مصلحة لمواطن يراجع هنا وهناك في التلفيق، وإنما يسرد قصته من باب التشكي والشعور بالضيم، مع جهة تعاني الانفلات الإداري، وموظف غير مؤتمن على وظيفة يشغلها، ولا يحترم مراجعه الإدارية. وباختصار: ( موظف بدون ضمير وظيفي ولا حتى إنساني ألبتة).
* أنا المواطن العبد الفقير إلى رحمة رب العالمين، مرّت بي مواقف سلبية كثيرة مع عدة جهات وأكثر من موظف على فترات متقاربة ومتباعدة. فهذا موقف مرّ بي شخصيًا ولم أنقل عن غيري، فقد شاءت الصدف أن أكون في إحدى الإدارات الحكومية، وكنت أحمل بعض الأوراق التي تحتاج إلى رقم صادر فقط. دخلت القسم الكبير فوجدت عدة مكاتب وثيرة بدون موظفين، ومكتبًا آخر فيه خمسة مكاتب خاوية إلا من موظفين اثنين يجلسان معًا أمام شاشة حاسب آلي وهما يدخنان ويتساران، وظهرا بدون غترة ولا عقال. طلبت منهما رقم إيداع فأحالاني إلى مكتب خال، وبعد ربع ساعة؛ لم يأت أحد، وظلت المكاتب خاوية، فانزعجت، ورفعت صوتي محتجًا فلم يأبها بي، واتصلت بقيادي كبير في إدارتهما لحظة وصول رئيس القسم الذي غضب مني ومن شكواي لرئيسه، وراح في الحال يبرر لي غياب موظفي إدارته، وقال لي: لست أنت من يحاسبنا..! فأكدت له أني من حقي محاسبته كمواطن على حالة متردية كهذه.
* هذه واحدة.. وواحدة أخرى -ولم أكن على عجل- ذلك أني كنت أزور قياديًا في إدارة أخرى، وجاءه من يشتكي من عدم وجود موظفين في القسم الذي فيه معاملته، فراح هذا القيادي يبحث عنهم فلم يجد أحدًا، واضطر أن يطلب بعض هؤلاء الموظفين على جوالاتهم في دورهم وقت الدوام الرسمي، لكي ينهوا معاملة المواطن الذي كان ينتظر في القسم منذ عدة ساعات..!
* قبل عدة أيام؛ زارني إعلامي صديق في مكتبي، وساقنا الحديث إلى الانفلات الإداري في كثير من الجهات التي لها صلة بالناس، فتتعطل بسبب ذلك معاملاتهم، وتتضرر مصالحهم، ويعم الفساد الذي يعطل التنمية ويعطل الإنسان نفسه. وعندما قصصت عليه بعض المواقف التي مرت بي في هذا الخصوص؛ راح يحكي لي ما هو أمرّ من ذلك وأعجب. قال: بأن فرعًا لجهة حكومية في المنطقة التي أتى منها، بلغ عدد موظفيه مؤخرًا أربعين موظفًا، لكن لا أكثر من موظفين أو ثلاثة طيلة ساعات الدوام يجدهم المراجع على مكاتبهم، وينوب بعض الموظفين عن البعض الآخر للتغطية على الغائبين عن العمل..!
* أنتم تتعجبون وتتساءلون في الوقت نفسه، وأنتم ممن يعرف مثل هذا وربما أكثر: ما دور المسؤول القيادي في جهات تعاني من تسيب الموظفين وسوء معاملتهم للمراجعين..! ألا يملك حق المراقبة والمتابعة والمحاسبة، ومن ثم تحقيق الانضباط الوظيفي في الإدارة التي يتولى قيادتها..؟
* بعد ذلك.. أين هي الجهات الرقابية العليا: (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والرقابة والتحقيق)؛ المنوط بها مكافحة التسيب، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وتحقيق البيئة الوظيفية الصالحة لخدمة المواطنين وتنمية المكان والإنسان الذي تعمل له الدولة على كافة الصُّعد..
* أخيرًا.. أين ذهبت ضمائر مثل هؤلاء الموظفين الذين يشغلون وظائف رسمية، ويتقاضون رواتب شهرية، وتظل نسب إنتاجياتهم متدنية أو معدومة..؟ متى يستيقظ الضمير الوظيفي الغائب فيعود من غيبته..؟
* أتكلم على التسيب والانفلات وسوء المعاملة في جهات حكومية عدة، وأنا هنا لا أعمم بطبيعة الحال، ولكني أقول: (إن تفاحة واحدة فاسدة في صندوق التفاح، تفسد البقية).