عبدالعزيز السماري
لعل أشهر قضيتين في المحاكم السعودية تلك التي حدثت بمشاركة الجن، كان أولها قاضي الجن بعد تورطه في قضية اختلاس، ثم ادَّعى أن جنياًَ تلبَّسه، وأنه يُعَالج بالرقية الشرعية، وقد تمت تبرئته في المحكمة الإدارية، والقصة الأخرى كانت حكْماً قضائياً بقتل رجل في الثمانين من عمره بعد قبول القاضي شهادة نفر من الجن على الرجل المسن، ولم يصدر حسب علمي أيَّ نفي أو تصحيح لهذه الرواية المتداولة..
ربما تكشف هاتان الروايتان جانباً من الحقيقة المرة التي نحاول تجاهلها في كثير من حواراتنا، وهي أننا مجتمع لا يعيش كلية في الواقع المحسوس وظواهره كبقية الشعوب، ولكن نعيش حالة فيما بين الشهادة والغيب، وهو ما قد يكون أقرب لحالة انفصام جزئي عن الواقع، وهو ما سهل عمليات الاحتيال، والتستر على بعض الجرائم الشنيعة بستار القدسية والتنزيه.
هناك من يعتقد أن التيار النقدي يحارب التدين أو المفاهيم السامية للدين، ولكن ذلك غير صحيح، فالتدين ظاهرة شخصية واختيار فردي لا يمكن الاعتراض عليه، لكن الإشكال هو فعل الجريمة باسم الدين، ثم إلباسها رداء القدسية، أو الدفاع عنها، إما بالصمت أو عدم نظامية الإجراءات المتبعة..
لذلك كان الموقف في غاية الاستنكار من جرائم القتل والإرهاب باسم الدين، وذلك عندما شنت بعض الطوائف الدينية الحرب على المجتمعات باسم التكفير أو نشر العقيدة الصحيحة، في حين ندرك أن مصالحهم تختفي خلف أقنعة الخطاب الديني أو الطائفي العنيف.
كذلك لا تقلُّ جريمة السرقة باسم الدين عن القتل في شناعتها، وتعريف السرقة اختلف عن أزمنة السلف، والذين كانوا يقدمون مفاهيم لا يمكن قبولها في العصر الحاضر، فعلى سبيل المثال لم يعد هناك مؤلفة قلوبهم، يحق لهم مال الأعطية من بيت المال، كذلك غابت ثقافة الغنيمة في عصر التنمية والدخل القومي ودخل الفرد، ولم يمكن قبول تقسيم الدخل العام بين الناس على أنه غنيمة..
لهذا الأسباب علينا إعادة تقييم مفاهيم الجريمة حسب لغة العصر، فالقتل باسم الدين هو جريمة، كذلك السرقة تحت غطاء الدين أيضاً جريمة كبرى، وأيضاً الادعاء بالاتصال بقوى الغيب كالجن لتبرير جريمة، أو الادعاء بأخذ شهادتهم ضد إنسان، هو ضرب من الخيال المهووس بالفكر الإجرامي والمتلبس بالدين.
يتفق الكثير أن الحداثة الغربية اتخذت مواقف في غاية العدائية ضد تسلط الكنيسة واستغلالها لقيم الغيب في تسيير الواقع وفق أهواء رهبانها، لكن تمادي الرهبان في استغلال سلطة الله جعلهم في موقف لا يُحسدون عليه عندما تم إقصاؤهم من الحياة السياسية والاجتماعية، لسبب استغلالهم الشنيع في تطويع التفسيرات الدينية لمصلحتهم المادية والشخصية..
في تاريخنا الديني كان الموقف من إدراك تدخل قوى الغيب في الحاضر قضية خلاف بين علماء الدين في ذلك الزمن، ولم تكن محسومة على وجه الإطلاق، وحاول بعض العلماء تقديم تفسيرات دينية تعتمد على نصوص قرآنية في إبعاد معرفة الإنسان بتدخل الغيب في الأحداث الدنيوية، وربط الواقع بأحداثه الملموسة، لكنهم فشلوا، مما فتح الباب في العصر الراهن لاستدعاء الحداثة الغربية لوقف التسلط والجرائم باسم الدين ..
من المفاهيم الشائعة والخاطئة أن يعتقد البعض أن التدين علامة على الصلاح أو الإصلاح، وهذا غير صحيح، فسيكولوجية الاستقامة تختلف في تكوينها عن التدين، وصلاح الإنسان في حياته العملية والمهنية والاجتماعية له علاقة أساسية بالتربية أولاً، وثانياً بصلاح النظام والمجتمع، ويرتبط أيضاً بالعدالة والحزم في تطبيق القوانين على الجميع بدون استثناء، وفي تعزيز مفاهيم إصلاحية في قضايا الكسب المشروع والعمل..
خلاصة الموضوع أننا لازلنا عاجزين عن تجاوز ذلك الخلط العجيب بين الغيب والواقع، وذلك لأسباب لها علاقة بالتحيز الأيدولوجي أولاً، وثانياً بعدم الإقدام على تقنين القضاء بمصطلحات قانونية صرفة، لا يمكن أن تنحاز إلى تفسير ديني عن آخر، وإذا لم نفعل ، فعلى المحاكم أن تكون مستعدة أيضاً للنظر في قضايا العين والحسد ..!، والله المستعان.