د. جاسر الحربش
ما هو الأوجب على الدول متدنية الإنتاج، استهداف مجتمع الرفاه الاستهلاكي، أم كبح الاستهلاك واستهداف مجتمع الإنتاج؟. لدي حدس أرجو خطأه، أن الرؤية الاقتصادية المبرمجة حاليا للتنفيذ تجتهد لاستمرار الرفاه الاستهلاكي. سياحة وترانزيت بضائع وطرح أصول وطنية في سوق الأسهم وإبقاء سوق العمل مفتوحا لتدفق العمالة الأجنبية، كل هذه مؤشرات اقتصاد استهلاكي ترفيهي بالمقام الأول.
فهم الفرق يحتاج إلى مقارنة قديم بجديد، مقارنة ما كنا عليه بما أصبحنا فيه. كل سعودي تحت سن الخمسين لا يعرف حقيقة واقعنا الإنتاجي في الماضي. حتى أواسط السبعينات الميلادية كان المواطن السعودي يعمل ليعيش، بمعنى يعمل لينتج ليأكل، أو يعمل مقابل أجر ليقايض ليأكل، وفي الحالتين كان يعمل ليعيش. الجميع كانوا يشاركون في العملية الإنتاجية بما في ذلك النساء والأطفال. سواء في الواحات أو السواحل، في الجبال أو الصحاري المفتوحة، الكل كان يعمل بما نشأ وتربى عليه. كان الإنتاج متواضعا لكن ليس ريعيا يأتي بلا مجهود، بل يتطلب مجهودا شاقا جدا يبعث في النهاية على السعادة بالمحصول والاعتزاز بالمتحقق.
في تلك الأزمنة لم يكن للدولة/ الحكومة دور مركزي في تأمين العيش ولا مصادر مالية تزيد عن المرتبات المتواضعة لحفظ الامن ومسك الدفاتر البيروقراطية وحسب التياسير بناء مدرسة أو مستوصف هنا او هناك. كلمة الرفاه لم تكن موجودة، والدولة/ الحكومة لم تكن قادرة على فتح الأبواب للهدر الاستهلاكي والاستقدام المفتوح والسياحة العبثية، ولا تستطيع صرف الأموال على مشاريع تكون فيها الوجاهة والفخامة جزءا معتبرا من التكاليف. بالمختصر كانت الحياة متواضعة جدا، لا رفاهية ولا دلع ولا سياحة أو برطعة استهلاكية، مجرد حياة صحية ومستقرة وتكافلية. من علامات صحة الحياة تلك أن المواطن بشقيه كان صلب العود مستقيما كالرمح، والدولة/ الحكومة تحسب المصاريف بالهللة. رغم المحدودية تلك أنجزت في تلك المرحلة قفزات هائلة في التعليم والبعثات الخارجية ثم تعليم البنات وكانت الرعاية الصحية الأولية أفضل من الوقت الحاضر. في الناحية الاجتماعية كان الناس يضحكون أكثر ويرقصون في الأفراح ببهجة أكبر، ولا يفترون على بعضهم بالكذب والانتقاص، ولا الأبناء يقتلون أهلهم ولا البنات يهربن من البيوت وكانت الأبواب مفتوحة على الشوارع.
إذا حصل شيء ما فكك البنيات الإنتاجية القديمة وغطى على بصرها فسحبها نحو الكسل والاستقدام والفجور في الاستهلاك لدرجة امتلاء القمائم بما كان في القديم يعد من أنفس المأكل والمشرب والملبس. انتقل المجتمع لغياب من يفكر له من استهداف الإنتاج للعيش إلى استهداف الرفاه الاستهلاكي بدون إنتاج. كانت قفزة غبية حدثت بحسن نية. ما حصل كان أن الدولة/ الحكومة وجدت فجأة خزائنها قد امتلأت بعائدات النفط دون توقع، فضخت الكثير من تلك الأموال من الاعلى إلى الأسفل، بافتراض أن هذا الشعب على مر الدهور والعصور كان فقيرا ومحروما من مباهج الحياة، فلماذا لا يستفاد من هذه الفرصة النادرة للنغنغة والفرفشة والانتقال من النوم على الأرض وتوسد الذراع إلى المخدة والسرير.
لم يرد أحد آنذاك التفكير في التحولات السيئة المحتملة، أي التحول من ارتباط الإنتاج والأكل بعرق الجبين إلى رفاهية الحياة الدودية الطفيلية والرمرمة على خراج الأرض.
والآن وقد حصل ما حصل ما هو الحل؟. الحل في جملة واحدة أن تعيد لنا الدولة الحكومة، لأنها هي القادرة على ذلك، عقلنا الإنتاجي الوطني القديم في خططها التنموية الحالية والمستقبلية، وتبتعد عن الترميم لاستبقاء نفس المفاهيم بهدف إطالة الحقبة الاستهلاكية. نريد العودة إلى المواطن الذي يعمل ليعيش، ومن الأولويات نحو ذلك الاستغناء عن العنصر الخدماتي الأجنبي سوى ما تتطلبه ضرورة المرحلة.