استيقظت على أصوات أجهزة الضغط، ونبضات القلب قبل أصوات المآذن، وقبل أصوات مكانس التنظيف.
دخلت ممرضة آسيوية وهي تدندن على غير العادة، يبدو أن مزاجها جيد هذا اليوم رغم أنها تعلم أن مهنتها تتطلب الابتسام أكثر من الدندنة.
في هذا المشفى أشعر بأني أتنفس الهيدروجين, أشعر بأني أبتلع جزيئات هائلة من الذرة مخلوطة بأنواع شتى من المركبات الكيميائية حد الغثيان.
رغم نظافة المكان إلا أني أشعر بأن البكتيريا تستوطن الأسقف العالية، وفي ثنايا الأسرّة، وبين خيوط الستائر المستديرة.
رائحة المستشفى تجذب الصداع إلى رأسي، تحدث اضطرابا يجعلني صامتة طوال الوقت ومتيبسة، رائحة المشفى تشبه رائحة الموت.
أشعر بأن شيئاً بارداً يتسلقني، أطرافي بدأت تتجمد، ذاكرتي بدأت بالنهوض، لا أعلم لما ينتابني برود كامل كلما تذكرت رعشة يديك المحمومتين، ما زلت أذكر عندما استفرغت ذاك السائل الأخضر اللزج على يدي، كان حاراً، لم أتقزز منه بحجم ما كنت خائفة منه عليك.
كنت تئن وتسعل طوال الليل.. أخبرتني أنه يصعب عليك التنفس.. فطلبت مني أن أرقيك، وحين حل الفجر لملمت خطاك لتصلي جماعة، فأدرك أنك بخير.
حين نقلوك إلى المشفى، هاتفتك مراراً، كان صوتك الصامت النحيل يهطل بغزارة، لكن في المرة الأخيرة كان ثقيلاً.. ثقيلاً جداً.. بحجم ما كنت تخفيه من ألم، أجبتني وصوتك ممتزج بأصوات طنين الأجهزة:
من أنتِ!!!
وأُغلق الخط.....
يُسيئني جداً أن أخبرك أنني أصبحت أتناول عقار CLONAZEPAM... بعد خبر مرضك..
البيت أصبح مليئاً بأدخنة اللبان والحبة السوداء، وتعويذات من أفواه بعيدة.
لم يزرنا أحد... أصبح بيتنا البيت الموبوء, لا يهم ذلك... المهم أن تعود.
كورونا.... ذاك الاسم المرعب المرتبط بالموت، لم أكن مقتنعة بأمر تلك الفيروسات، اعتقدت أنها إحدى أسلحة الحرب على الإنسان من صنعه، وقد تكون وهماً أو حرباً نفسية فقط.
حاولوا إقناعي بأنها مرضك أنا... لا أسمعهم.. هناك شيء آخر... شيء قرأته في وجهك، في عينيك اللتين تخبئ فيهما قبيلة من الأسرار.
وضعوك في غرفة (العزل) غرفة ضيقة، باهتة اللون, جدرانها تنكمش ببطء.
رأيتك من خلف الزجاج نائماً، كطفل ضائع حزين، تتخللك أنابيب وأسلاك مرعبة أسمع نبضك الضعيف.. أسمعه بقوة وكأنه في داخلي..
أتراك تسمعني!!... حسناً لوح لي بحركة من إصبعك لأعلم أنك تسمعني!!
أردت أن أحكي لك أشياء كثيرة..
عن مكانك المفقود، عن ظلالك التائهة، عن طلاء غرفتك الذي جف ولم تراه، وعن كتاباتي البائسة التي أمرتني بجمعها لأصنع منها كتابا يحمل اسمى وإهداءً باسمك، أردت أن أقول إنك كنت صادقاً بشأن الأقنعة التي تحوم حولنا سقطت كلها بلا استثناء.
أردت أن أحكي لك أشياء كثيرة..
لكن.. ثمة حاجزا منيعا بيننا.. صمتك هذه المرة كان طويلاً.
الأطباء المتكبرون، لمجرد اشتباه، حقنوك بالمضادات اللعينة وجسدك الضعيف لا يحتمل.. نهشت كليتاك فأصابتها بالفشل..
لمجرد اشتباه.. خدروك وعزلوك عن أنفاس الحياة
لمجرد اشتباه تطلبت نتائج التحليل عن الكورونا 168 ساعة لتأتي النتيجة متأخرة جداً متأخرة بحجم الفقد كانت النتائج سليمة مما يدعون..
نتائج تثبت أنهم في آخر الصف ولن يتقدموا شبراً للأمام..
ماذا سيفعلون عندما فشل ظنهم؟ كيف سيبررون شناعة أخطائهم؟ يلصقون بك أمراضاً شتى, ويلصقون أخطائهم بالقدر، تلك هواية الأطباء الفاشلين. يريدون منا أن نتصلب، يريدون منا أن نسايرهم في تخبطهم لن يغفر لهم الله، لن يسامحهم الموتى.
نصيحة انطوان تشيخوف:
(في حالات السعال الشديد حاول ألا تسعل أبدا لمدة ثلاثة أو أربعة أيام عندئذ سيختفي تماما المرض تلقائيا.. وحذار أن تسلم نفسك لطبيب فاشل- بتصرف).