د. خيرية السقاف
ليست حديثة عهد كل الانتهاكات التي لحقت باللغة العربية على ألسنة أبنائها، وليس حديث عهد تغييبها ليس في الكلام اليومي، والرسمي، بل في أسماء الشركات، وعناوين المراسلات، وصفات المحال، والبيانات التجارية، والوصفات الطبية، والمشاركات العلمية، وأنواع التفاوض المختلفة، فلا تكاد تميز الناطقين بها أهم من أهلها، أو هم ليسوا منهم وأنت في عقر دارها، حيث أنزلت آيات الله تعالى بها لتفحم أهلها، وتعجزهم عن الإتيان بمثلها في أنصع قوتها، وأبلج حجتها، وأصالتها، ومتانتها، وتدفقها بألسنة أهلها في الجزيرة العربية..
والأدهى أن الصغير والكبير، والأمي والجاهل، والوافد، والمقيم، بدءًا بالطفل، وبالعامل، وبربة البيت، وبالناشئة حين تستمع لحوارهم، أو تتبادل معهم منفعة ما تجدها هذه العربية مجروحة منتهكة، مضافًا إليها المعرَّب المعوج من الكلمات الأجنبية ملفوظًا غالبًا عن غير مخرجها من تلك.. فلا العربية سليمة كما يجب، ولا الأجنبية واضحة كما ينبغي..!!
وتمادى انتهاكها في عقر دارها هذه العربية فتجدها في شوارع منبتها غريبة، وفي الجامعات أهلها حزينة، وفي التبادل المختلف بين الفرد ومجالات تعامله حائرة، حتى في البنوك، والمصحات، والصيدليات، بل في اللهو بالألعاب، وفي التعامل مع المطاعم مغيبة مطمورة..!!
واستفحل الأمر بأنها غدت لغة التجارة، تقدم للمشتري والبائع بغيرها بيانات ما تبتاع أرقامًا وأسماءً، ونوعية، ومواصفات بغيرها، فتقع في كثير من ثغرات عدم معرفة اللغة الأخرى تلك الشرائح الكثيرة ممن لا يقرؤون بغيرها، ولا يفهمون سواها من الشرائح العامة المستهلكة بشكل أكبر حاجاتها الشرائية مختلفة النوع، والقيمة، ذات المستندات المسجلة أرقامًا وأسماء بغيرها..
وتكلمنا كثيرًا، وطويلاً، وفي كل المناسبات، وعند أي المواقف مذ دق ناقوس الخطر الذي حدق بالعربية على الأقل في شؤونهم اليومية داخل السوق، وعند الحاجة لابتياع أي ما يندرج في خانة الحاجات اليومية، والنفعية، والاستهلاكية.. ناهيك عمّا سواها..!
وذهب كثرٌ يظنون في هذه المطالب والإلحاح بها ما يؤخر «عجلة» إدراجنا في مسار التقدم!!
بل دوَّر بعضهم خطا أحمر حول هذه المطالب الملحة بعودة العربية لتبقى، ومن ثم لتعود لغة التخاطب، والتجارة، والمستندات، وأسماء المحلات، وجميع أنواع التعامل، فجعلوا ما في وسط دائرة هذا الخط الأحمر لمن يطالب بذلك صفات فوسموه «بالرجعية، والتقليدية، والجمود»، ..
إن شجون العربية في نواحي المجتمع، وتفاصيل أركانه كبيرة، ومهمة، وبالغة الحاجة لإعادة ما تستحقه إليها من حق التسيّد، والبقاء على الأقل بين أهلها..
وها هي وزارة التجارة تنصفها، وللمرة الأولى تتخذ مؤسسة رسمية كبرى في المجتمع هذا القرار الحاسم، والحازم في حقها، فوزارة التجارة أصدرت قرارها الشفيف الملزِم وبقوة، وهي تصرح في بيانها الرسمي الذي نشر قبل يومين بإلزام (كافة المنشآت والأسواق والمحلات التجارية استخدام اللغة العربية في جميع الفواتير وبطاقات السعر والإعلانات والعقود وعروض الأسعار وجميع المطبوعات وشهادات الضمان مع إمكانية استخدام اللغة الإنجليزية كلغة إضافية) مؤكدة على أن هذا القرار يأتي (تنفيذًا لما يقضي به نظام البيانات التجارية وحتى يكون المستهلك على معرفة تامة بالسلع والخدمات التي يحصل عليها وفقًا للغته الأساسية).
بما يشير إلى أنه كان نظامًا مؤجلاً ولن يؤجل بعد اليوم، لأن ما نصت به الوزارة في قرارها الأخير هو أنها (مستمرة في ضبط مخالفات المحلات التجارية التي لا تلتزم بوضع بطاقة السعر على معروضاتها من السلع)، وستتعقب الوزارة (ضبط مخالفات عدم التقيد باستخدام اللغة العربية في البيانات التجارية المقدمة أو المعروضة للمستهلك) مشيرة في بيانها إلى ما تضمنه النظام من (عقوبة مالية للمخالفين تصل إلى 100 ألف ريال على أن تضاعف الغرامة إلى الضعف وإغلاق المحل لمدة تصل إلى سنة كاملة في حالة تكرار المخالفة).
وهذه أولى الخطوات التنفيذية الجادة في حق العربية التي اتخذتها وزارة التجارة في عين الشمس. ولعلها تكون أولى الحروف في أبجدية تعزيز الثقة في لغة القوم بإعادتها سليمة معافاة بين أهلها، وفي تعاملهم اليومي الشامل، إِذ لا تعزز مكانة أية أمة إلا بالحرص على لغة أهلها، وجعلها سيدة الموقف، لتأخذ وضعها الطبيعي في المعاملات التجارية مع الآخر لعلهم أن يفرضوها كما فرضنا لغاتهم لدينا
هو ذا ثغر الطريق.
تحية للأخ العزيز وزير التجارة د.ماجد بن عبدالله القصبي، تحية للعاملين معه، المتابعين، والمراقبين، والمشرفين على تنفيذ القرار، لإجراء العقوبة على كل من لا يلتزم أو يتأخر في التنفيذ لهذا النظام المنصف.
ولعل من يقتدي به في بقية مرافق مؤسسات المجتمع المختلفة لتتصدر العربية ألسنة أهلها، ومن ثم غيرهم.