ما أقسى الألم، وما أشد لوعة الفراق حين يرزأ المرء بفقد عزيز عليه، ويتمالكه الأسى والحزن لفراقه وموته، غير أن مما يهون فداحة الخطب هو أن المؤمن يدرك أن قضاء الله نافذ، وإذا حل الأجل فلا مرد له، والموت حق وهو سبيل كل حي، ولا بد من الرضا بقضاء الله وقدره وكم من الأموات الذين يغادرون هذه الدنيا ولكنهم يغادرونها بأجسادهم لأنهم يعيشون في قلوب الناس جميعا بأخلاقهم وصلاحهم وأعمالهم الجليلة، ومن هؤلاء العالم الفاضل والصديق العزيز الدكتور عبد الله إبراهيم العسكر - يرحمه الله -، تألم وحزن لفقده خلق كثير وكل من له صلة به، أو عرفه أو سمع به من طلاب العلم ومحبيه وعامة الناس، وإذا كان بعض من نفقدهم في الحياة يترك فراغاً محدوداً في محيط ذويه، فإن أهل العلم والمعرفة يتركون فراغاً كبيراً قد لا يتهيأ من يسده وذلك لما يقدمونه من عطاء ثر في ميدان علمهم، وبما يتصفون به من أخلاق وسجايا حميدة، مما يكون له أكبر الأثر في نفوس الناس، ولا غرو فالعلماء مصابيح يستضاء بها في دياجي الظلام بما يشع من فكرهم وعلمهم المستنير، ومن هذا المنطلق شدني ما يتمتع به الدكتور عبدالله العسكر - رحمه الله - من خصال علمية وخلقية، وما له من يد طولى في مسيرة العلم إلى أن أتحدث عنه في كلمة وفاء أراها عاجزة عن أن توفيه حقه. والحق أن كل من عرفه يرحمه الله يشهد له بسمو خلقه وطيبة قلبه، وصفاء نفسه، ونقاء سريرته وحبه وتودده لكل من يلقاه من محبيه، من يجالسه لا يراه إلا طلق المحيا هاشاً باشاً حتى أنه يشعر من حوله بأخوته، وفي هذا الإطار عاش وتنامى منطلقه الأخوي والأبوي في معايشة الناس والتعامل معهم، فملك بذلك شغاف القلوب حبا وتقديرا، عرفت الدكتور عبدالله العسكر محباً للمعرفة عاشقاً للتاريخ باحثاً متميزاً مدققاً محققاً، عرفته هاشاً باشاً يهوى مجالس العلم والمعرفة ويغشى المكتبات متزوداً منها ما يطفئ أوار ظمئه من العلم والمعرفة، عرفته صاحب قلم تسيل شباته فكراً هادفاً نيراً عرفته مسكوناً بحب وطنه، عرفته أستاذاً جامعياً يبذل قصارى جهده وسعة في إفادة طلابه بحصيلة علمه في مجال الدراسات التاريخية والأدبية، وهو بذلك يسهم في بناء جيل مسلح بالعلم والمعرفة.
يبني الرجال وغيره يبني القرى
شتان بين قرىً وبين رجال
التقيت به مراراً في ثلوثية الصديق العزيز الدكتور محمد المشوح يحرص على حضورها والمشاركة فيها بمداخلاته المفيدة، لا تسمع منه إلا ما يسر من الكلام، وينأى بنفسه عن اللغط، وهو بذلك يندرج فيمن عناهم أبو العلاء المعري في البيت الأول من قوله:
من الناس من لفظه لؤلؤ
يبادره اللفظ إذ يلفظ
وبعضهم قوله كالحصا
يقال فيُلغى ولا يحفظ
اطلعت على سيرته الذاتية فوجدتها زاخرة بالنشاط العلمي والبحوث والدراسات التاريخية التي تنمّ عن رسوخ قدمه في البحث والدراسة، وقد تعددت وتنوعت مشاركاته العلمية من حيث الزمان والمكان والموضوع فمن حيث الزمان امتدت منذ عام 1972 ببحث الحالة الاقتصادية عند الجنوب في العصر القديم، إلى عام (2015) يبحث البعد الثقافي في حياة الملك سلمان بن عبد العزيز، وتناولت أبحاثه عصوراً عديدة منها القرن التاسع والعاشر في بحث (التجارة البيئية الامبراطورية البيزنطية والخلافة العربية خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين)، والعصر القديم في بحثه (الحالة الاقتصادية عند عرب الجنوب في العصر القديم) والعصر الأموي في بحثه (هجرة بني حنيفة إلى الأمصار الإسلامية في العصر الأموي نشر في مجلة الدارة عام 1992)، ويلاحظ أن أول بحث له المؤرخ في عام 1972 كان المحاولة الأولى له في البحث ولعله كان من أبحاثه في المرحلة الجامعية لأنه حصل على البكالوريوس في التاريخ قبل سنتين من تخرجه في كلية التربية، وفي ذلك دلالة على أنه مارس البحث العلمي في وقت مبكر من حياته الدراسية والعلمية، ويتبين مما بين تاريخ 1972 وتاريخ 2015 أن الباحث تمرس في البحث من خلال الفترة التي بين التاريخين، والتي تصل إلى (43) عاماً، ومن حيث الموضوع نجده يرتاد ميداناً فسيحاً هو فارسه الذي يركض في اتجاهات عديدة للتاريخ والدراسات التاريخية، وله فيها قصب السبق ومنها أطروحته في الدكتوراه التي كانت بعنوان (السياسة الإقليمية : دراسة حالة : اليمامة في القرنين السادس والسابع الميلاديين) وجاء في التعريف بها أن الباحث توصل إلى أن إقليم الحجاز واليمامة (الآن يسمى نجد) واليمن وعمان كانت تشكل أقاليم يتميز أهلها بشعور اقليمي متدفق، وكانت تلك الأقاليم تبحث دائماً عن الاستقلال عن بقية المناطق في جزيرة العرب، وتعد أطروحته هذه أول دراسة أكاديمية تدرس تاريخ اليمامة، ولما لها من أهمية وقيمة علمية نشرت باللغة الإنجليزية عام 1423 - 2002، وصدرت عن دار (أثيكا lthica) ووجدت قبولاً واسعاً في الدوائر العلمية الغربية، ثم ترجمت إلى اللغة العربية وصدرت عن دار جداول عام 1424 - 2012، أما أبحاثه ودراساته الأخرى فقد تناولت بالبحث جوانب اقتصادية وتاريخية وسياسية واجتماعية مثل بحث (الحالة الاقتصادية عند عرب الجنوب في العصر القديم) وبحث (النفط في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز) تقدم به لندوة العلمية لتاريخ الملك سعود، وامتدت أبحاثه إلى تناول القصص والتاريخ من خلال القرآن الكريم مثل بحثه (ذو القرنين بين الخبر القرآني والواقع التاريخي) ونشر في مجلة الدارة عام 1977، ولم يغب عن باله أن يواكب التطور التقني في دراسة التاريخ ويبدو ذلك من خلال بحثه (استعمال الحاسوب في دراسة التاريخ) ونشر في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 2000، كما ألقى الضوء في بعض أبحاثه على جانب هام من الدراسات التاريخية وهو جانب منهج البحث التاريخي وله في ذلك أكثر من بحث هي (التاريخ الكمي) ونشر في حوليات كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1993، وبحث النقد التاريخي شارك به في اللقاء الثالث لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون في عمان - ابريل عام 2001، والتفت في بعض أبحاثه إلى أهمية التراث الشعبي في تدوين التاريخ، وله في ذلك بحثان أحدهما: (أهمية تدوين التراث الشعبي كمصدر تاريخي) - شارك به في مؤتمر مناهج توثيق التراث الشعبي في دولة الإمارات في شهر مارس عام 2000، والثاني بحث التاريخ الشعبي - شارك به في ندوة مستقبل الثقافة العربية بمكتبة الملك عبد العزيز بالرياض 2002، وبما أن للمستشرقين أبحاثاً حول التاريخ الإسلامي تحمل توجهاتهم وآرائهم الاستشراقية التي لا يخلو بعضها من محاولة التشويه للتاريخ الإسلامي لهذا نجد الدكتور العسكر يولي هذا الجانب اهتمامه فيعد بحثاً بعنوان (حقب التاريخ الإسلامي في نظر المستشرقين) شارك به في الندوة العلمية الخامسة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق عام (2000) وتطرق في بعض أبحاثه إلى مضامين بعض المصادر التاريخية الموسوعية المعتمدة مثل تاريخ الطبري حيث أعد بحثاً بعنوان (السيرة النبوية عند الطبري) شارك به في اللقاء العلمي السابع للجمعية التاريخية عام 2003.
على أن مسيرته العلمية الحافلة بالأبحاث والدراسات الجادة تحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها فهي تعكس عنايته الفائقة بالبحث العلمي في مجال التاريخ كما تعكس نهمه وحرصه على الارتواء من معين الثقافة والعلم والمعرفة.
رحم الله أبا نايف رحمة واسعة فهو إن غاب عنا بجسده فقد سكن القلوب بعلمه وأخلاقه وصفاته الحميدة.
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
فإن كانت الأجساد منا تباعدت
فإن المدى بين القلوب قريب
- أ.د. عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان