د. فوزية البكر
تثير فكرة هروب الفتيات من أهلهن الرعب في أوصال أشجع الأمهات والآباء بدرجة تدفعنا للتساؤل عما إذا كانت حقاً ظاهرة ملموسة أو أنها مجرد حالات متفرقة اليوم، لكنها مرشحة للتزايد بفعل النماذج التي حدثت فعلاً وبحكم سطوة وسائل التواصل التي تنقل الغث والسمين فتغوي وتزين للفتيات الصغيرات أفكاراً لم تكن حتى قابلة للتفكر سنوات مضت.
تشير آخر الإحصاءات إلى أن أكثر من 900 فتاة قد هربن من أهاليهن لعوامل كثيرة. ورغم أن هذه النسبة لا تبدو (إحصائيا) ذات أثر يذكر مقارنة بالحجم الكلي لنسبة النساء في المملكة إلا أنها وفي مجتمعنا تحديدا تبدو أرقاماً صادمة لا يتخيلها أحد فما الذي يا ترى يدفع بالفتيات إلى الهرب؟ أين يكمن الخلل؟ هل هو في الأسرة؟ أم هي المسلسلات التركية كما أشارت بعض التغريدات بما تقدمه من قوالب حب جاهزة تتمنى كل مراهقة الحصول عليها باعتقاد واقعيتها؟ أم هي معضلة اجتماعية أكبر وهو ما سنتناوله في الأسبوع القادم؟.
لا شك أن ما يحدث هو خليط من كل ذلك وربما يتوافق معه في بعض الحالات نوع من الاستعداد الذاتي الذي قد يتم استغلاله خاصة مع صغيرات السن.
لكن تبقى الأسرة هي الحاضن الأساسي للأبناء والبنات كما أنها خط الدفاع الأول الذي يجب أن نفتح أعيننا بشدة لنعمل على تقويته وتنميته من الداخل سواء في أساليب التربية المتبعة من الوالدين أو في علاقات الأسرة مع بعضها البعض أو في طبيعة المفاهيم التي تحكم النظرة للفتاة مقابل الذكر في العائلة أو نسبة الحرية المعطاة لها مقابل ما يعطى له.
لا نذيع سراً حين نقولها وبعلانية إننا جميعاً متورطون مع أبنائنا. إنهم يختلفون كثيراً عما عشناه وعهدناه ورغم أننا متعلمون وتكنقراط ونعتقد اننا نتعامل بحرفية لا بأس بها مع التقنية الحديثة الا أن أبناءنا يفوقوننا بعصور ضوئية متقدمة، وهذا يفرض واقعين متناقضين نلاحظهما في البيئة السعودية :الأول إعطاء حرية كبيرة جدا للولد منذ أن تبدأ معالم البلوغ في طرق أبوابه فلا نسأله في الغالب أين يذهب ومع من، كما يزداد تدريجاً الوقت الذي يقضيه خارج الأسرة أو مع أجهزته، وقد يمضي الساعات ولا رقيب ولا حسيب فهو ولد، وساعد عالم اليوم السريع على سهولة تواصله مع الآخرين والعالم سواء عبر أجهزته أو عبر المواصلات اذ يقوم معظمهم بالقيادة في سن مبكرة يقابل ذلك استمرار الطريقة التقليدية التي اتبعتها أمهاتنا معنا فالفتاة تكبر لكن يظل التوقع الأسري والاجتماعي بأنها تحوم حول أمها وخالاتها وعماتها (الإناث في العائلة) بطريقة أو بأخرى، فهي تذهب إلى المدرسة ولاحقا الجامعة مع شغالة لتوصيلها أو مع الأم (أي ان لا ثقة ان تخرج لوحدها من المنزل مهما كبرت) كما أن الحق للجميع ليسأل وقد يتدخل في مشاويرها (مع من تذهب؟ إلى أين؟ متى تعود؟) وكلها أسئلة قد تبدو طبيعية للوالدين وللأسرة السعودية لكنها ليست كذلك للفتاة أو للعالم الخارجي. لماذا؟ لأننا لا نسمح للفتاة أن تكبر وتشب عن الطوق أبداً، فهي القاصرة عن العناية بنفسها كما أن حاجتها (المفترضة) للحراسة الدائمة تتيح للجميع حق التدخل بما لا يجعل لها مساحة للحرية الشخصية التي فرضها عصرنا الحاضر شئنا أم أبينا. عصرنا الحاضر فرض لكافة الأقليات (الصغار، المعاقون، النساء، العمال) حقوقاً كبيرة نرى أننا تدريجياً بدأنا نسلم بها عبر قوانيننا وممارساتنا، (انظر ماذا حصل في موضوع العاملات المنزليات) ولا مناص لنا من الاعتراف بأن بناتنا كذلك يكبرن ليصبحن نساء ناضجات قادرات على العناية بأنفسهن واتخاذ القرارات اليومية بشكل مستقل. هل يعني هذا أن نترك لهن الحبل على الغارب كما يقولون؟.
بالطبع لا، فنحن في مجتمع مسلم محافظ يفرض اشتراطاته والأسرة عبر الأم والأب سيكونان مسئولين عن أولادهما أمام المجتمع الذي لا يرحم.
إذن ما العمل؟ التوازن ورؤية كافة الأبناء ذكوراً وإناثاً بنفس العين على قدر ما نستطيع. ليس من صالح الولد أن يكون مستقلاً وينام في الاستراحات أو يسهر في رمضان حتى التاسعة صباحاً مع من لا نعرفهم، كما أن ذلك بالطبع غير صالح للبنت، والمطلوب هو التوازن والعدل وإظهار الحنان والحب دون خجل (لم نتعود على تقبيل أولادنا أو حضنهم أو إعطاء كلمات الحب إلا حين يكونون صغاراً، عدا ذلك فهو (عيب) خلاص (رجال أو حرمة كبيرة) وهذا خطأ. كلنا وفي كل أعمارنا نحتاج إلى الكلمة الطيبة والتشجيع والدعم. تحتاج الأسرة السعودية أن تقضي على أجهزتها وتفرض ضرورة أن تكون أسرة بزيادة الوقت الذي تقضيه مع بعض، ولن يحدث ذلك بشكل سطحي أو بالأرغام لأن العائلات حول العالم تحقق ذلك بقضاء شؤونها بنفسها من طبخ وتنظيف وغسيل ملابس وتقليم حديقة.. إلخ، مما يرغم أفراد الأسرة ان تتعامل مع بعضها البعض وتتحاور وتختلف، وهو ما يولد الذكريات المشتركة.
العمالة المنزلية على أهمية الخدمات التي تقدمها لنا سرقت أدوار الأسرة واعتقلتنا داخل هذه الدور الكبيرة نسبياً ففقدنا عائلاتنا.
ما تحتاجه الفتاة في منازلنا هو أن نعترف بأنها بالغة عاقلة وان لا نتدخل في كل صغائرها، وأن نمنحها الثقة التي تدربها للمستقبل، أما أن تكون ابنة اليوم وتعامل بقيم الأمس فهذا ما يدفع البنات إلى الهروب.