د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
**في الأربعينيات الهجرية تُوفي رجلٌ فاضلٌ من أهالي عنيزة إثر رؤيته السيارة أول مرة لخوفه من الله وظنه أن يوم القيامة قد أتى أو دنا «وَفق الرواية المتداولة»، ومثلما كانت السيارةُ طارئةً في مجتمع وسط الجزيرة العربية آنذاك فقد كانت البرقية والإذاعة ومكبر الصوت وصعود القمر محطاتِ توقفٍ، كما كان تعليم البنات ودراسة اللغات ودوران الأرض والتمثيل المسرحي وكرة القدم نقاط تجاذب؛ لترسم هذه الظواهر بمكوناتها المادية والمعنوية محدداتِ الصورة المتموجة التي عاشها الناس وهم يشهدون التاريخ - بتنوعه الهادئ والعاصف - يسير أمامهم فيحيون أول عمرهم كما القرن الأول الهجري ويتخطون في خريفه كلَّ الأزمنة الوسيطة والحديثة معاصرين الجديد والأجدَّ والهانئَ والمحتدّ وما يستأذنُ في الدخول وما يمتنع على الصدّ.
** وفي زمن العوالم الرقمية اختلطت العناصر المادية والمعنوية مكونة ظواهر أنارت وأثارت فصارت عولمتُها رابطًا بين مجتمعات منغلقة وأخرى مندلقة ولم تعد المحافَظة حريةً مصادَرةً ولا الحريةَ محافظةً منضبطة.
** تقترب الظاهرة الاجتماعية من الظاهرة المادية من حيث إمكانُ إخضاعها للدراسة التجريبية والخلوص إلى نظرياتٍ ضابطةٍ قد تتغير كما تتغير القوانين الطبيعية، وفي أدبيات علم الاجتماع - كما ورد في تأصيلات رموزه وعلى رأسهم «دوركايم» - ما يرى شيئية البناء الاجتماعي وقابليته للبحث التطبيقي.
** وفي حال مجتمعٍ كمجتمعنا فإن توصيف الظواهر الاجتماعية المتغيّرة لا يكفي، وللتدليل فإن من توقفوا أيامًا وأشهرًا وربما سنوات لتطبيع العلاقة مع المذياع والتلفاز ولعب الكرة وتعليم المرأة وغزو الفضاء ونحوها لا يحتاجون إلى ذلك اليوم؛ فلم ينتظر الناس من يحلّل لهم أو يحرم عليهم الفضاءات الشبكية كما صنعوا عند ظهور القنوات الفضائية، بل أفتوا لأنفسهم بأنفسهم، وهو ما يتجدد مع كثير من المدخلات التقنية التي لا تطرق الباب بإعلان أو إعلام.
**عاد الأكثرون إلى التأصيل الذي يكتفي بوضع قواعدَ واسعةٍ تفرّق بين العادات والعبادات وبين المحدثات الشرعية والدنيوية وتحاول التحرّر من الاستفتاءات التفصيلية القابلة للاجتهادات والخاضعة لتغيرها وفق الزمان والمكان والعوائد والحالات كما فصَّل في ذلك الأصوليون؛ فمن يحرم الاختلاط المباشر بين الرجل والمرأة في دنيا الواقع لا يستطيع تحريمه في العالم الافتراضي، ومن لا يرى إباحة الموسيقى فإن اسمه ووسمه مُحاصر بها، وهكذا.
** عشنا زمنًا وليس في أجوائنا غير برنامجٍ أو اثنين للأحكام الفقهية ثم تعددت البرامج، وكنا نرى العالِم الكبير يسير وحده إلا من مريدٍ ونحوه ثم صارت الطرقاتُ ملأى بأتباعه، والظن أننا في مخاض زمن يُحيل إلى فتاوى القلوب ويجعل الحياة انسيابيةً أكثر.
** الجديد لا يفتر والمباح لا يتوارى، ولدينا من المعضلات ما يشغلنا عن استعادة السائد واستزادة المكرور.
** العلمُ لا ينتظر إذنا.