د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
رؤية 2030 المستقبلية ترسم من خلال ما تضمّنته من أفكار وتطلّعات وأهداف عامة أفقاً مستقبلياً عريضاً لهذا الوطن - بلا شك. لكن هل قدّمت شيئاً غريباً مغرقاً في الخيال - أي شيء لا نستطيع تحقيقه؟ الجواب بالنفي.
هي آمال عريضة حقاً، قد لا نقدر على تحقيقها بالكامل، لكنها جديرة بالسعي الجادّ لتحقيقها. ولو تفحصنا الأهداف التي حدّدتها نجد معظمها قد تكرّر وروده في الخطط والإستراتيجيات السابقة التي لم يقطع أغلبها أبعد من الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل. والعلّة ليست في هذه الأهداف العامة، بل في تجزئتها -أي تقسيمها بين أكثر من جهة تشترك بقدر كبير أو صغير مباشر أو غير مباشر في المسؤولية عن تحقيقها- وتنشغل كل جهة بما يخصّها وما يعتمد لها من برامج ومشاريع جديدة ومستمرّه، وتبذل كل طاقتها للتنفيذ ومغالبة العوائق العارضة، ولكن دون ترابط وتناغم بين الجهات ذات الشأن. لذا يظلّ الهدف العام حبيس ذاكرة النوايا ما دام لا يسأل عنه أحد أويحاسب على المؤشرات الدالّة عليه، وإنما يتوجه الاهتمام إلى إحصاء ما أُنجز من أعمال كل جهة منفرده. وتبعاً لهذه المنهجيه فلكل جهة مستقلة سياستها واستراتيجيتها الخاصة. وقد يغيّر كل رئيس جديد للجهة استراتيجيتها وسياستها وفقاً لرؤيته التي يحبّذها.
مثل هذه المنهجية يحدونا الأمل في أن ترسّخ الرؤية 2030 المستقبلية نهجاً مغايراً لها بفعل عاملين قويّين:
أولاً- عامل الإرادة السياسية:
لم يكن إعلان الخطط والأهداف كافياً، فهذا يحدث في كل مناسبة يعتمد فيها خطط خمسية واستراتيجيات وطنية، بل أُعلن من أعلى مركز في السلطة عن التصميم على تحقيق كل أهدافها الاستراتيجية، والجدية في متابعة تنفيذ برامجها بوضع الآليات الفعّالة للدفع في اتجاه تحقيق تلك الأهداف - على النحو الذى جاء في الرؤية وما صدر قبلها وبعدها من قرارات. على سبيل المثال:
1- أُعدّت الرؤية في ضوء استشارات ودراسات متعدّدة ، وبعد مناقشتها بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة سموّ وليّ وليّ العهد قدّمها سموّه لمجلس الوزراء حيث اعتمدت، ثمّ أعلن سموّه تفاصيلها.
2- مهّدت الحكومة لتحقيق الرؤية بإنشاء هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة وإعادة هيكلة بعض قطاعات الدولة وإنشاء مركز وطني لقياس الأداء (الذي كان تابعاً لمعهد الإدارة) وإنشاء هيئة الترفية وهيئة الثقافة وهيئة المنشآت المتوسطة والصغيرة وصندوق الصناديق لدعم تمويلها.
3- بادرت الرؤية بإعلان برنامج للتحوّل الوطني يتضمن قيام الحهات الحكومية بإعداد وتقديم (مبادرات) تطويريه، وحُدّد عام 2020 موعداً لقياس ما تمّ إنجازه منها. وقدّم كل الوزراء المعنيين مبادراتهم بعد شهر من إعلان الرؤية. ولم يكونوا بحاجة للبدء من الصفر واختراع العجلة من جديد، فقد كانت كثير من الأفكار والخطط الجيدة موجودة، ولكن ربما تمّ تنقيحها وإعادة ترتيب أولوياتها.
4- التزمت الرؤية بعدم التسامح مع الفساد بتحقيق أعلى مستويات الشفافية ومعايير المحاسبة والمساءلة، والعمل على توسيع نطاق الخدمات الإلكترونية وتحسين معايير الحوكمة للحدّ من تأخير تنفيذ الأعمال، كما التزمت بالمراجعة المستمرة للأنظمة. وحيث لم تتضمّن الرؤية التزامات بشأن الخروج من أنماط الإدارة المركزية وضعف الإدارة المحلية، فإنه يُخشى من الاتكال على نمط الإدارة والحوكمة المركزية الإلكترونية. ولا شك أنه ممّا يعضّد التزام الرؤية بالشفافية والحوكمة تفاعل المجتمع نفسه ومؤسساته- مثل المجالس التي تمثّله والجمعيات ووسائل الإعلام - من خلال إبداء الرأي والرقابة المجتمعية وملاحظة التقصير - لا سيّما عند تفعيل وتطوير الإدارة المحلية اللامركزية.
5- وضعت الرؤية ضمن محاورها بناء اقتصاد مزدهر منتج يفضى إلى زيادة الدخل القومي، ويضمن استمرارية التمويل الحكومي دون الاعتماد على مصدر وحيد للدخل قابل للنضوب، بل بإضافة مصادر أخرى مثل ضريبة القيمة المضافة، والتوازن في سياسة الدعم المالي، ورفع رأسمال صندوق الاستثمارات العامة، وتخصيص بعض الخدمات الحكومية، كما يسهم في خفض البطاله ويكفل الأمان المعيشيّ والرخاء للمواطن.
6- جعلت الرؤية من أهدافها تعظيم دور القطاع الخاص لكي يلعب دوراً رئيسياً في تحقيق أهداف التنمية الوطنية، وذلك من خلال شراكات مع المستثمرين المحليين والأجانب وإقامة مشاريع فردية والتسهيلات والفرص التي تتيحها الدولة مثل منح القروض وتخصيص خدمات حكومية ودعم المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة وتطوير المدن الصناعية. وقد التزمت الرؤية برفع مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من نسبة40% إلى 65%.
ونجاح القطاع الخاص في أداء هذا الدور يتطلب إقدامه على الاستثمار في مبادرات تغطّى مجال النشاط الاقتصادي المنتج - صناعياً وزراعياً ومعرفياً وخدمياً- والتزامه بتعيين وتأهيل العامل الوطنيّ الكفء.
ثانياً- الإرادة المجتمعية :
تتمثّل الإرادة المجتمعية في تقبّل المجتمع وحجم وقوة تفاعله - بأفراده وفئاته - مع أهداف الرؤية، وقيامه بدور إيجابي في تحقيق الرؤية من خلال المشاركة والعمل الجاد. وعلي سبيل المثال :
...............................................يتبع