زكية إبراهيم الحجي
قديماً.. عرف التاريخ البشري كل أشكال التفاعل بين الأمم والشعوب والحضارات والثقافات المختلفة، وقد تمثّلت في التأثير والتأثر حتى الصراعات والحروب كان لها السهم الأكبر بين الحضارات وعلى امتداد التاريخ البشري.. فالعصور التاريخية السابقة والحاضرة تحدثنا وفي مختلف حقبها عن ما يمكن أن نسميه حوار الحضارات والتلاقح والتفاعل فيما بينها وفي ذات الوقت تحدثنا عن صراع الحضارات وما تفرزه من فوضى وانقسام.. سجال وتنافر قد لا تنهيه أي توافقات.. ولكن بقدر ما كانت هذه الصراعات والفوضى العارمة إحدى سمات الاتصال البشري كونها عاملاً مؤثّراً في تكوين الحضارات وانتقالها بين الأمم والشعوب.. وبقدر أيضاً ما كانت الحروب سبباً للدمار إلا أنها أدت إلى تبادل المعارف وغيرها من مكونات الحضارة وكان لها الدور الأكبر في بناء الثقافات المختلفة والشواهد على ذلك موثقة في سجلات التاريخ وكتبه.
إن جوهر العلاقة بين الحضارات ينبع من واقع الصيرورة التاريخية.. لذلك لا حياة لثقافات متطابقة.. فالتمايز الثقافي أساس التفاعل بين الأمم والشعوب والتفاعل لا يُلغي التمايز، كما أننا لا يمكن أن ننكر وجود قواسم مشتركة بين الحضارات إلا أن الاختلاف الثقافي والتراثي هو الذي يُعمّق الرؤى الحضارية ويؤسس لقيم الحوار مع الآخر والتفاعل معه.
ولعل فكرة نشأة حوار الحضارات كانت بمثابة رد فعل على مقولة (صدام أو صراع الحضارات) التي نشرها وروّج لها الكاتب الأمريكي «صموئيل هنتنجتون»، فهل الصراع الحضاري أمر حتمي كما يرى «هنتنجتون» أم أن الحوار الحضاري هو الطريق نحو نظام عالمي تسوده المحبة ويعمه السلام.
جاءت نظرية صراع الحضارات لتصور الصراع بأنه ما زال مستمراً وسيبقى مستمراً وتدعو صراحة إلى الاستعداد للدفاع عن النموذج الأمريكي وقد ضرب هنتنجتون على وتر حساس عندما صور أن الخطر القادم هو خطر إسلامي في أغلبه.. اللافت أن ما يهيمن على كل ما كتبه هو المشهد التعسفي غير المبرر عندما استبعد كافة الحضارات في صراعها مع الغرب وأبقى على الحضارة الإسلامية وحضارة الصين لاعتقاده أن هاتين الحضارتين تطمحان إلى التحديث والطغيان على الغرب ورفض نموذجه لذلك سيكون هناك صراع بينهما وبين الغرب.
لقد كان هنتنجتون واضحاً في أطروحته وهي أن الهوية الثقافية والتي هي في أوسع معانيها تشير إلى الهوية الحضارية والأصول الدينية وعلى الخصوص الدين الإسلامي وكذلك العقيدة الصينية هي التي تشكل نماذج التطرف والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.
التسليم بمقولة صراع الحضارات أو صدامها يُجافي حقائق التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة.. الحضارة لا طابع عرقياً لها ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، بل تنسب إلى أمة من الأمم أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم بخلاف الثقافة التي تعتبر رمزاً للهوية وتعبيراً عن ما يتفرد به أي شعب من الشعوب.. الحضارة وعاء لثقافات متنوّعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها فامتزجت وتلاقحت وشكلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها كما تعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً.
نحن اليوم أمام تحد كبير لمواجهة أطروحة هنتنجتون المتمثلة في نظريته صدام أو صراع الحضارات.. وعلينا أن نتجاوز أسلوب التهديد والاستنكار بوضع خطط تنموية وسياسية.. اقتصادية وثقافية وإعلامية تمكننا من مواجهة تحديات العصر ليس بالاستعلاء وليس بالتطرف أو العنف إنما بأسلوب السلم والتسامح واحترام الاختلاف والتنوع الثقافي ونشر ثقافة حوار الحضارات وبيان موقف الإسلام من التعايش السلمي بين الحضارات.