د. خيرية السقاف
مع يسرها, وهدوئها, كانت الأيام مليئة بخصب الأمل,
في الصباح ..
مع بهجة ارتداء ملابس المدرسة, وأنت تقضم لقمة من كسرة مشبعة بالجبن تمدّها لفمك كف أُمك, ..
وأنت تحمل حقيبتك للمدرسة, تفكر في اللقاء بأعز أصدقائك,
مع فرحتك بحفنة قروش يدسها أبوك في قبضتك, وأنت مطمئن..
آخر ما تودعه عند باب الدار وجه أُمك, وأول ما تستقبله في العربة وجه أبيك..,
وهناك قبل أن تلج سور المدرسة ببشْرِه يرحب بك الحارس,
وباحتوائه تحييِّك كلمة رطبة منه معلمُك وهو يعبر جوارك للداخل..
هناك دنياك كلها مكتنزة بآمالك وطموحك, ببراءة صفحات جوفك ونقائها,
لا تحمل هماً, لا تُفزعك رؤية, لا يخيفك شارع, لا تعفر سويداء قلبك فجائع, لا تعرف النكبات, ولا الهلاك..
يومك يمضي وآخر, وآخر,
لا ما يهمك غير تحبير دفاترك, وكسب اهتمام معلمك, وإسعاد أمك, وأبيك,
حتى أوراق كتبك لها رائحة تنتشي بها جوانبك, وأقلامك لها مساس الندى بين يديك..!!
كان ذلك حين كانت الدنيا للناس على يسرها مفعمة بالرضا, والقناعة, والهدوء..
تذكر دبيب النمل, وحشرجة الحشرة, وحفيف ورق الشجر, ووقع ثمارها على الأرض..
لا صخب مربك حولك, لا عبث يشوِّه مفاهيمك, لا غوغاء تطمس مداركك,
لا أحقاد تخيفك, لا قتل يرعبك, لا دماء تفزعك, لا نار تكربك, لا دمار يحزنك, لا غدر يُمرضك, لا فجائع تدمرك, لا خيبات تغرقك, لا يأس يعمِّرك..!!
لا تسمع ما يكدرك, ولا ترى ما يشوّه الجمال في ناظرك..
إذ لا هموم, لا أطماع, لا سكاكين تغرس في لحوم بقر ميتة,..!
لا طبول في فِرَق نفاق,.. لا تناكب عند مخبز رغيف, لا سفه في مسألة, ولا ذل عند حاجة..
كل الحياة لك , بكل الناس حولك كانت طيبة, وكانوا طيبين..!
فإذا ما دوّى في أذنيك صوت منادٍ بموت شخص ليترافقوا جنازته إلى المسجد ارتعبت أطرافك, ودمعت عيناك :
جارك الذي تعرفه أكثر مما تعرف نفسك رحل, رحيلاً طبيعياً بأجل, مريضاً كان أو سليماً..
الموت حين كان يأتي فلأنه طبيعي يتماشى مع يقينك بالحق..
وانقلب بالناس, ودنياهم ظهر المجن, غدت بقع الأرض من حولك ملطخة بالدماء, منتنة بالجثث, مقززة بالقتل, شاحبة بالدمار, مخيبة بفقد الطيبة, حارقة بسوء النوايا,
مولعة بقتل الهدوء, مصابة بنحر الأمل مخيفة بدفن الحقائق, مريضة بفسادها..
تلك التي كانت يسيرة عامرة بالرضا..
صعبت حتى المدارك لاستيعاب الذي عليه واقع الأرض, ومن فوقها..
ومع أن النافذة يواربها حلمٌ بعيد بذيوله المتشظّية,
يبقى للإنسان في قوائم رسوماته خيطٌ أبيض ..
لكن المرارة أنّ صخب الواقع دموي ناري, ولكي يأمل الإنسان فيه لهدوء كالذي كان, ولتجفيف الدماء, ولسجن الخوف, وللإفراج عن الطمأنينة, ولدلق السلام بين يديه يحتاج إلى أعمار أخرى قد لا يستوعبها زمنه الذي هو فيه..!!
الإنسان المعاصر مكابر في حقيقته, مجازف بعنفوانه, مصنِّعا لهزائمه,
قد شوه واقعه, وأغرقه..
ربما لحظات يمتح فيها من معين الزمن الذي مضى, من ساحة المدرسة, وباب من الدار, ومنعطف الحيِّ, ووجه الجار, وصوت مذياع الجارة, وزخم فرن الناصية, وابتسامة المعلمة, وتحية حارس المدرسة ما يمسح عليه بترتيلة سكينة..!
أقدِّر لقرائي الأعزاء تعقيباتهم اليومية حيث يطلون, ممتنّة لكل رأي, معتزّة بكل مشاركة..
ممتدة بمن يبحر منهم مع المعنى, وينسج متذوقاً بفيض .., حُفظتم رفقاء الحرف.