محمد آل الشيخ
القول بإن كل ما كان من أمور الجاهلية قبل البعثة من شؤون الحياة وأخلاقياتها أمور مرفوضة ابتداء لأنّها كانت تمارس في زمن الجاهلية قولٌ يعوزه الإثبات والدليل، ويحتاج إلى تحليل التفاصيل والبواعث قبل قبوله أو رفضه.
الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: (إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)؛ وهذا يعني بمنتهى الجلاء والوضوح أن ثمة مكارم أخلاق كانت سائدة قبل البعثة النبوية، أي في الفترة التي أُطلق عليها تاريخياً الفترة الجاهلية، لكنها كانت ناقصة، فلما جاء الإسلام، جاء (ليتممها)؛ ومن يقرأ تاريخ العرب لن تخطئ عينه أن عرب (الجاهلية) كانت لهم عادات وتقاليد وأدبيات وأخلاقيات تعتبر بحق من مكارم الأخلاق، فأقرَّها الدين الحنيف، وزاد عليها. لذلك فمن يزعم أن (حياة الجاهلية) كلها جملة ودون تفصيل يجب هدمها كما يزايد المتأسلمون المسيسون الغلاة، فإنَّ مثل هذه المزاعم لا يمكن قبولها، لأن القاعدة هنا ليست مطلقة، وإنما مُقيدة بما أباحه الإسلام وما حرَّمه، وما سكت عنه وما اتخذ منه موقفا محايدا. مثل الكرم ونصرة الضعيف، وكذلك الشجاعة، والجيّد من الشعر والأمثال والحكم.
فالرسول - صلى الله عليه وسلَّم - مثلاً أثنى على (حلف الفضول) وقال عنه : شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دُعيت لمثله في الإسلام لأجبت. ومعروف أن هذا الحلف هو ممارسة أبرمت في الفترة الجاهلية، أي قبل البعثة، وثناء الرسول عليه يعني أننا يجب أن نفرق بين الممارسات التي يرفضها الإسلام والممارسات التي يقرها، وليس أخذ الموضوع جملة ودونما تفصيل؛ الأصل في الأمور الإباحة إلا ما حرَّمه الإسلام؛ وهذه هي القاعدة التي نميز بها بين ما هو مقبول وما هو مرفوض. فالبيع والشراء - مثلا - أمر مشروع في الجاهلية، ولما جاء الإسلام أقره ونظمه، وحرم بعض الممارسات التي قد ينشأ عنها ضرر بأحد طرفي العقد، فالمعوَّل عليه هنا تحريم التفصيل الذي حرمه الإسلام، وليس تحريم البيع جملة على اعتبار أنه ممارسة جاهلية. وما ينطبق على هذه النصوص في التعاملات ينطبق أيضاً على الأسواق، كسوق عكاظ وغيرها من أسواق العرب.
كما أن جريدة (عكاظ) مثلاً أنشئت في زمن الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز بن باز - رحمهم الله جميعاً - ولم يعترض هؤلاء الإعلام الثلاثة على تسميتها لمجرد نسبتها لسوق عكاظ، لأن العبرة بالمحتوى وليس بالمسمى، ولو أن في المسمى، والنسبة إلى (سوق عكاظ) محظوراً لما سكتوا عنه؛ ولم يذكر لنا تاريخهم المسجل أنهم قد اعترضوا على هذه التسمية، مع أنها في حقيقتها إحياء لهذا السوق الأدبي التاريخي.
أما (غلاة اليوم) فهم يعانون من تشدد غير مبرر، لا يستقيم معه دليل، فالقاعدة الحرام ما حرمه الإسلام والحلال ما أحله، وعلى ذلك فقس. أما التنطع والتصيد وتحميل الأمور ما لا تحتمل، فهذا ضرب من ضروب التشدد الذي نهى عنه أول من نهى الرسول عليه الصلاة والسلام.
إلى اللقاء.