أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك أناس يسكنون الروح، يبقون في الذاكرة حتى وإن غادروا الدنيا، تتراقص صورهم بين الحنايا، وتداعب ملامحهم العيون، هم أحياء بطفولتهم البريئة أو بمواقفهم الشجاعة، وأحاديثهم الشيقة، وذكرهم الطيب، وبوحهم الصادق، ومشاعرهم الفياضة، لم يستطع الزمن أن يزيحهم عن الحضور، وعلى افتراض أنهم غابوا حين النهار جراء عراك الحياة والضرب في الأرض، فجزماً ستراهم في المنام وكأنهم ما زالوا كما هم، آباء كانوا أو أبناء، إخواناً وأصدقاء، رجالاً ونساء صغاراً وكباراً، أناس سطّروا لهم صفحة من صفحات العطاء في سجلّ الأعمال الإنسانية الخالد، أو أنهم أقارب خلدوا لحظة من لحظات الأنس في حياة أيٍّ منا.
سر غريب هذا الحب المولد للاستشعار عن بعد، الذي يتجاوز حدود الدور ويتنقل بين الأحياء وأهل القبور، نسمعه حكايات تسطّر وتروى، ونراه ونعايشه صحوة ومناماً دون أن نملك له تفسيراً.
حاول البعض أن يغازله يوماً ما فعاد البصر خاسئاً وهو حسير.
الروح لها حياة كما أن الأجساد تحيا وتموت، ولكن للروح طبيعتها التي تخفى، وإن كنا نعرف ونستشعر الأثر دون الكُنه، ولذا كان لزاماً أن يكون هناك حديث عن هذه الأرواح من قِبَل المثقفين والكتاب، خاصة في هذا الزمن الذي سيطرت المادة فيه على مناطق التفكير لدى إنسان القرن الحادي والعشرين بلا استثناء.
صدقوني التأمل في عالم الروح أمر ممتع وشيق، ولعل مما بيّنه رسولنا عليه الصلاة والسلام لنا أن للأرواح- التي سُئل عنها فجاء الجواب من الله: « قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» - دائرة تعارف قد تسبق لقاء الأجساد، ليس من باب تناسخ الأرواح ولكن باعتبار الحال الذي يترجمه الواقع في كثير من الصداقات التي تكون لبنتها الأساس وقاعدتها المتينة اللقاء الأول لجسدين في روح.
غريب هذا المخلوق وعجيب حال بني آدم، حديثهم وجلّ اهتمامهم بجانبهم المادي المنظور، وكأن هذا البشري المكرم عند خالقه ومولاه «بنفخة من روح الرب» مجرد آلة لها أضراس تطحن في كاهل هذا الإنسان حتى الموت.
الروح تسرح وتروح، تغدو وتجيء، وصاحبها جالس أمامك لم يتحرك ولم ينطق ببنت شفة، وربما كان يتقلب في فراشه وهو يقابل هذا الحي ويتحدث إلى ذاك الميت، يحزن ويفرح، يبكي ويضحك، وفي النهاية يستيقظ مفزوعاً أو متعجباً، سيّان، المهم أنه عاد كما هو في حال اليقظة الكاملة والوعي التام.
العجيب أن الناس يختلفون في قوة أرواحهم وحضورها كما هو الحال في اختلاف أجسادهم وبنية أبدانهم التي قد يكون للرياضة والحمية دور مهم في تحقيق هذا التميز.
هذا الأمر يطرح سؤالاً مهماً عن السبل التي من خلالها يمكن للإنسان أن يقوي جانبه الروحي ويحقق تميزاً عن غيره في هذا المضمار.
سؤال آخر في ذات الحقل، ترى لماذا يقوى الجانب الروحي عند فلان من الناس في وقت ما ويخبو في آخر؟ ومع هذا الموقف دون غيره من المواقف؟ وحين يلتقي بهذا المخلوق دون سواه من بني البشر... وهكذا، سيل من الأسئلة التي تحاصر كل متأمل ومتفكر في نفسه التي بين جنبيه.
حكايات الروح عجيبة، ساقني للحديث عنها لحظة هروب من زحمة الحياة وإيقاعها الصعب، تولد معها أحاديث أرواح لا تعرف مقدار الزمن ولا تعترف بحدود المكان، فكانت هذه التساؤلات التي لم تغادرني حتى تاريخه، دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام.