د. خيرية السقاف
المبدع لا يأتي إبداعه من فراغ ..،
ولا يصنعه جنيٌّ في لحظة استحواذ على فكره، وإحساسه.. ولا تفضي به لوثة يحسبها الآخرون جنوناً.. ولا يكونُه متطفلٌ فيتعرى..!!
الإبداع إدراك متمادٍ، متنامٍ ، متجددٌ، متدفقٌ، كمروحة النسيم ترطب، وكمجداف الغارق يُنقذ، وكبوصلة الضال تدُلُّ، وكقطرة الصادي تروي، وكلقمة الجائع تسدُّ، وكدواء العليل يشفي، وكغفوة الساهد تُجدد، وكمسحة الرؤوف تُسكِّنُ..!!
الإبداع إجابات لا تُرى لكنها تفعل كسريان الدم في العروق،..
ووهج الضوء في الغسق..!!
الإبداع وعي دقيق، عميق، ثري، مفعم، خالص، شفيف،..
يعيد تشكيل الواقع برؤية جمالية أنقى،..
يرمم خدوشَه بخام أجلد وأقوى،..
يقرِّب بعيده بأجنحة أمضى..!!
يقلِّم أظفاره فلا جروح، يزخ لجفافه لوفرة الخضرة، يشذِّب نتوءاته لاستواء المضمار،
يعالج أمراضه لعافية المفاصل، يرطِّب قسوته للدونة التفاصيل،.. يشعل في ظلمته لرؤية أبعد، يبدد أحزانه لراحة أسعد،.. يفتح له آفاقا مغلقة للمدد، يضخ رواءه في آباره الجافة فلا تثقب الدلاء،.. يجري موارد ندية لتطيب العروق في جداول النفوس.. الإبداع واقع مصنوع برؤى متطلعة، ومفاصل أقوى، وأبجدية لا عدد لحروفها، ولا مدى لأبعادها..
الإبداع واقع لكنه معاد التدوير، والتشكيل، والصنعة.. بفكرة أخرى، ونظرة أخرى، وحس أشمل، وأطيب، وأصفى،
يستشرف، يبتكر، ينتظر، ويفعل، ولا ينتهي..!
فالواقع كي يجْمُل لا علاج له دون الإبداع..
فالمبدع طبيب.. والمبدع صانع، وهو نحات، وهو بنَّاء..
هو من تتخلق بين يدي إبداعه خريطة الحياة..
تتشكل رؤى هذا الواقع، وتُنْتَجع مسالكه..!!
فما باله قد استوحش في صومعته ومخابئه..؟!
ما به وقد انطوى في محرابه وانزوى..؟!
أغلبته الفوضى المتهالكة، وخدشه النشاز المتكاثف، ووخزه الشوك المترامي..؟! وباتت الثلة من فصيلته تكابد في الوعثاء..؟!
وغدت الألوان في مصانعه بالكاد تكر بها هذه الثلة وتفر في مضامير الغث فلا تقوى،
بين الكثرة من الباهت فكأنها النجمة البعيدة التي لا تُرى، والجدول في مدى السراب الذي يتمادى..
فبالكاد تنافح بين الصادم المتسيد منها، والخواء المنتشر بها، والمتزيِّف بوسومِ الإبداع وهو مفرغ منه، لا يمت له...؟!
***
إيه..
الإبداع مسؤولية لا يحتملها المرتخية ملكاته، المزيفة رغباته، المتطفل أنفه..!!