د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
وفي يوم الأحد 4-11-1437هـ اتصل بي أخي وحبيبي ورفيقي الوفي في قمع شهوته ولي فيه قول لا أحول ولا أحيد عنه (صدوق زمانه وصادق أمته اتصل بي الشيخ محمد ابن العالم الفقيه الجهبذ الشيخ ناصر خلوفة طياش -رحمه الله- إمام في الفقه والكلام والمعرفة مع صلابة في دينه من وجهاء صامطة الذين نضرب إليهم الإبل لتلقي العلم عنهم اتصل بي وأخبرني بوفاة شيخ الظبية وشريفها الحسين بن أحمد بن عبدالفتاح الحازمي، الرجل الذي جمع الله فيه بين صفتين عظيمتين هما:
الأولى: الحلم والأناة.
والثانية: غلبة العقل على النفس، لا غلبة النفس على العقل. ومن غلب عقله على نفسه ارتدع وقمع عوارض المدخولة. واستضاء بنور الله واتبع العدل. ومن غلبت نفسه على عقله، عميت بصيرته ولم يصح عنده الفرق بين الحسن والقبيح، وعظم الالتباس عنده وتردى في هوة الردى ومهواة الهلكة.
وفي يوم الاثنين سافرت من مطار الملك خالد إلى مطار الملك عبدالله بجازان، واتصلت بأخي وابن عمي د. سعد بن مقرن وكيل الإمارة وأني سوف أزوره للسلام عليه، وأخبرته بوقت وصولي وعندما وقفت الطائرة ونزلت منها بادرني اثنان من الشباب وسلما علي واتجه أحدهما إلى قيادة السيارة الجديدة البيئم والثاني تسابقت معه إلى فتح باب الراكب ففتحته بيدي قبله وشكرته. فتوجهت إلى جامع خادم الحرمين في جازان قبل أذان الظهر لتأدية ركعتي السنة لأن القادم يحسن في حق أول مباشرته للمسجد لصلاة تحية المسجد وبه قال شيخنا: الإمام عبدالعزيز بن باز وفعله وعند وصولي إلى الجامع إذا بإمامه الشيخ الحافظ حسن الحكمي. فرحب بي هو الآخر واتجهت معه إلى بيته الملاصق للجامع - وإني لأدعو شيخي الشيخ المحدث والفقيه صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفيد المحمدين إلى دراسة إمكانية إقامة صلاة الاستسقاء والعيدين في جامع خادم الحرمين الشريفين لحسن هذا الجامع وعظمه ومساحته وتكليف الشيخ حسن الحكمي إمام الجامع وخطيبه بإقامة صلاة الاستسقاء والعيدين والخسوف والكسوف في هذا الجامع لصفات إمامه وعظم بنائه وجماله ومساحته - توجهت إلى بيته، وقدم القهوة. وبعد صلاة الظهر وعند الساعة الثانية توجهت إلى حيث يقيم الوكيل المبارك حيث أقسم على غدائه وأنه غداء البيت فأجبته بعد شماس ونفار.
ومعلوم عندنا في نجد أن بيت آل مقرن -وهم أهل القرينة ضاحية من ضواحي حريملا- أنهم بيت إمارة في أسلافهم وأحفادهم والقرينة نسبة إلى آل مقرن (الوداعين)، وعند الساعة (2) ظهراً توجهت وصحبي إلى وكيل الإمارة في بيته وقد جمع فيه ثلة من الأولين وقليلاً من الآخرين الذين أعرفهم ويعرفونني فرحبت بنا وقال: جميل هذا اليوم وشيل مطر ولقاء أخ، فقلت له على الفور:
حاشا لمثلك أن يكون بخيلا
ولمثل مجدك أن يكون قليلا
ولمثل فخرك أن يكون ضئيلا
ولمثل بذلك أن يكون قليلا
فجلست وصحبي في المكان المخصص لنا ودار الحديث عن أمير جازان ونهضت جازان وعلق على ذلك سعادة الوكيل بقوله: أما نهضة جازان فيكفي في بيانها ما أوردته في مقالك في الجزيرة (أمير منطقة جازان وشاهد ومشهود أما أميرها فأزيد، عهدته أصفى من الماء، ومع المواطنين ألطف من الهوى ومع الحق أثبت من الجبال وأقوى من الحديد، ومع الناس أشد امتزاجاً من اللون في الملوَّن، وأنفذ استحكاماً من الأعراض في الأجسام، وأضوأ من الشمس، وأصح من العيان، وأثقب من النجم، وأصدق من كدر القطا وأعجب من الدهر، وأحسن من البر، وأجمل من وجه أبي عامر مثل يقال، وهو للموظف والمراجع: ألذ من العافية وأحلى من المنى، وأدنى من النفس، وأقرب من النسب.
قلت وأزيد يا سعادة الوكيل: ومع صاحب الحق أرسخ من النقش في الحجر.
ثم دعانا الوكيل إلى مائدة أهل الجنة وعليها ما تشتهي الأنفس وتلذ الألسن، وتقر الأعين. ومن مائدة أبي الموائد توجهت ومعي بعض الرفاق إلى الظبية قرية المتوفى مع طريق دولي عجيب يربط يمننا بشامنا. ووصلنا إلى الظبية وفعلا هي ظبية فريدة تقع على مفترق الطريق الدولي وطريق أبي عريش، تعجبك في هدوئها وجمالها يسكنها رجال أوفياء، وشباب أتقياء أذكياء، وبنات كلهن حياء تخفى كل واحدة منهن تحت نقابها تخفى حسن الخلق والخلق.
وصلنا إلى القرية واتجهنا إلى مكان العزاء وإذا بالناس من حوله وكأنهم بعثوا ليوم القيامة. كباراً وصغاراً. قوم يحترمون أنفسهم وكلامهم وفيهم من صفات الملائكة الحافين بطلاب العلم الشيء الكثير.
دخلت وصحبي وبعد السلام أخذت مكاني في صدارة المجلس وبجانبي وعلى يميني إخوة المتوفى وأبناؤه، ورحب بي الشيخ الأخ العباس وهو أحد إخوة الحسين واعتذر إلي قائلا: نرحب فيك وقد تحملت متاعب السفر. فقلت له: لا تعب في الواجب وأعتب عليك -وإن كانت الأرواح جنود مجندة- كيف لا تخبرني بوفاته وتعلم محبتي وميلي إليه؟ فالحسين أحبه لأن:
1- كثيراً من الناس يتبعون أهواءهم إلا الحسين.
2- كثيراً من الناس يتجنبون ما حض عليه الشرع ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعصية ومقارعة الهوى ويخالفون الله ربهم إلا الحسين.
3- كثيراً من الناس يوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطبة فيواقعون المعصية إلا الحسين.
4- في المسلم طبيعتان متضادتان إحداهما تشير بخير وتحض على الحسن ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضٍ وهي العقل ويقوده العدل وتلك في الحسين والثانية: ضد للأولى تشير بالشهوات وتقود إلى المهلكات وهي النفس الأمارة بالسوء وتقودها الشهوة والرغبة وهذه نجا منها الحسين.
والحسين -رحمه الله- في منطقة جازان أشهر من الشمس في مكان ولقد اطلعت من سر شهرته في جازان على أمر عظيم وهو: إخلاصه في ولائه وعمله وصدقه في تعامله وحبه للمساكين ومن حكمه المشهورة في محكمة جازان العامة أنه كلف من قبلي بالإصلاح بين زوجين ويقول لهما: لست أبعِدُ أن تكونا صالحين. فالصلاح في الرجال والنساء موجود وأعوذ بالله أن أظن غير هذا.
وأني رأيت الناس يغلطون في معنى (الصلاح) غلطاً بعيداً. فالصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة ضدها.
والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ولا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة وينكر المشاهد المؤذية، ويحب الخلوات مع الله ويكره المهلكات، ثم عقب بقوله: إن الصالحين والصالحات كالنار الكافية في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك. والفاسقين والفاسقات كالنار المشتعلة تحرق كل شيء، ثم أصغى إلى الزوج وقال: وما امرأة مهملة ورجل متعرض إلا وقد هلكا وتلفا، ثم أصلح بينهما على خير هذا هو الحسين. ومن نوادره: أنه أتي برجل إلى المحكمة وقد ارتكب ما موجبه حداً وأخذ القاضي يلومه ويؤنبه والرجل يستغفر ويشهد على توبته والقاضي يصر على أنه لم يتب فالتفت الحسين إلى القاضي وبهدوء وصوت خافت، يا فضيلة الشيخ: أتحرم رجلاً مسلماً التوبة؟ هذا هو الحسين.
وإني لأصف شيئاً في الحسين يراه عياناً من عرفه، وهو أنى ما رأيته إلا مبتسماً، مستغفراً.
سألته يوماً عن الحكمة في ورود النهي عن الهوى بنص التنزيل، فأجاب على الفور: إن في النهي عن الهوى بنص التنزيل لشيئاً مقنعاً، وفي إيقاع هذه الكلمة -أعني الهوى- اسماً على معان وفي اشتقاقها عند العرب دليل على ميل النفس وهويها إلى المخالفات المحذورة، وأن التمسك عنها مقارع لنفسه محارب لها.
وسألته ذات مرة يا حسين هل جهلت وقد عشت زمناً طويلاً ؟فقال: نعم عشت في زمن الجهل وإني لأعرف هذا وأتقنه ومع هذا يعلم الله وكفى به عليماً أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة نقي الحجرة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط ولا يحاسبني بكبيرة مذ عقلت إلى يومي هذا والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى، والمستعصم فيما بقى، فقلت له إن لبعض المتقدمين قولاً في (وأما بنعمة ربك فحدث) وهو أن المسلم يكون مخبراً عن نفسه بما أنعم الله به عليه من طاعة ربه التي هي من أعظم النعيم ولا سيما في المفترض على المسلمين تركه أو العمل به.
كان -رحمه الله- من بيت طاعة ومن منبت حسن وعبادة، ومن بيت علم وفقه فوالده -رحمه الله- قاضي هروب مركز بادية وحاضرة وأصبح الآن محافظة كبيرة تعج بالتجارة وبالعلم والعلماء.
فالحسين مكرم في الحفظ، مغموس في الولاية محفوف بالكلاءة، مؤيد بما يقارب العصمة لا يجعل للشيطان عليه سبيلاً، ولا فتح لوسواسه نحوه طريقاً، لا يقصد الخطيئة، فعاش الحسين -رحمه الله- في بيئة طاهرة لا قبيحة ولا مضرة حتى ارتفع في عيون الناس حاضرة وبادية، وأصبح مقصداً للمشايخ ومنتاباً للفضلاء وعلية القوم.
أعاذنا الله من البلاء وسترنا في كفايته ولا سلبنا ما بنا من نعمة، فيا سعادة من استقام وثبت، وحرسه الله من الخذلان أن يحل به، ما أجمل هذا وأحسنه ممن كان لله أولاً ثم مات على ذلك، فرحمك الله يا حسين، لم يتسيب إلى ما حرم الله وصل إلى مراده بالكرامة والأنفة، والصدق والإخلاص.
فما ارتفعت الغيرة من الإنسان في دينه ووطنه وأمته إلا ارتفعت عنه محبة الناس له.
وبعد الانتهاء من واجب السلام رجعت إلى حيث أسكن في المكان المعد من سعادة الوكيل وبعد صلاة العشاء مباشرة توجهت إلى أبي وولي أمري أمير منطقة جازان، الأمير محمد بن ناصر، وقد رتب لنا لقاء مع سموه وإذا به كعادته يرحب بي ويسأل عن أولادي وأسرتي ويسأل عن الزلفي وأهله ويعد بزيارتها سألني عن مجيئي إلى جازان فقصصت عليه القصص فأخبرني بأنه سوف يزورهم وكعادته مع أهل جازان، نعم أشهد بأنك أمير الأخلاق، أمير الصدق، أمير في كل شيء، أحببتك في ذات الله، صاحب عزيمة، وصاحب مكارم، تصغر في عينك العظيمة، تريد للناس الخير بنيت جازان فأعليت بناءها فعندك ما مات مظلوم وما عاش ظالم، ثم ودعته بخالص دعائي وأقترح تسمية شارع باسمه تكريماً له.
اللهم يا من بيده ملكوت السموات والأرض أجمعنا مع من نحب في الجنة، فإنه لا يملك ذلك إلا أنت.
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصاً عليها مستهاما بها صبَّا
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد
إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا